د. عبدالحق عزوزي
سأنقل القارئ في هاته المقالة إلى كتاب فريد من نوعه كتبه العلامة وأستاذ الأجيال سيدي عباس الجراري سماه «رحيق العمر، موجز سيرتي الذاتية ج 1, النشأة والمشروع» تخليداً للذكرى التسعين لتأسيس النادي الجراري 1930- 2020؛ وعباس الجراري كما سبق وأن كتبت عنه سابقاً هو واحد من القلائل الذين مدادهم مروءة عربية، وبريقهم هي شمس العرب الحقيقية، التي تفهم الدين الإسلامي على حقيقته، وبناء الحضارة على حقيقتها؛ والجمال منهم فتان وهو من حماة الضاد وسدنتها ورعاتها ومن أمراء العقل والسماحة والسلام وبناء الأسرة الإنسانية الواحدة والبيت المجتمعي المشترك، وهو من فرسان ميادين قبول الآخر وقمة في التواضع... وبيني وبين سيدي عباس وصلة الأخوة الصادقة، ووشيجة الوطنية الصافية، والكلمة الراقية، ومحتد الشهامة الأصيلة في قواسم العلم والانتماء الثقافي والتربية الأسرية.
وعباس الجراري هو عالم مغربي موسوعي تنوعت مجالات إنتاجه من النقد الأدبي، إلى أدب الرحلة، والسيرة الذاتية، والشعر، والتراجم، وتاريخ الفكر والأدب، وقضايا الفكر الإسلامي.. ولد عباس الجراري يوم 15 فبراير/ شباط 1937 في الرباط، وهو من أسرة علمية، إذ يُعدُّ والده الأستاذ عبدالله الجراري من رواد الحركة الثقافية المغربية ومن كبار علمائها ومنذ صغري وأنا أسمع والدي العلامة الدكتور ادريس عزوزي، أطال الله في عمره، يتحدث عنه وعن علمه وشجرة العائلة المباركة، إلى أن شاءت الأقدار الربانية أن أصبحت علاقتي مع سيدي عباس علاقة الابن تجاه والده الروحي.
وقد تولى عباس الجراري وظائف كثيرة ومناصب عديدة، حيث التحق بالسلك الدبلوماسي لسفارة المغرب في القاهرة عام 1962، وانضم إلى هيئة التدريس في جامعة محمد الخامس في فاس ثم في الرباط عام 1966.
وشغل عضوية أكاديمية المملكة المغربية والمجلس العلمي الإقليمي لولاية الرباط عام 1983، وعينه جلالة المغفور له الحسن الثاني في الديوان الملكي في يناير/ كانون الثاني 1999، ورقاه جلالة الملك محمد السادس لمنصب مستشار ملكي في 29 مارس/ آذار 2000.
كما حصل بالإضافة إلى العشرات من المناصب، على عضوية عدد من المجمعات العلمية والاتحادات والهيئات الاستشارية المحلية والعربية والدولية، منها: نائب رئيس مجلس إدارة جمعية العلاقات المغربية الأميركية، ورئيس لجنة التعريف بالثقافة المغربية في الداخل والخارج، وعضو مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، وخبير متخصص لدى العديد من المنظمات الدولية...
أما كتابه الجديد هذا، فالقارئ له سيعرف كيف وصل سيدي عباس إلى ما وصل إليه والمشقات التي واجهها وهو يتمثل قول الشاعر:
تريدين إدراك المعالي رخيصة
ولكن لا بد للشهد من إبر النحل
وإذا صح لي أن ألخص نجاحه في حياته المعطاءة بناء على معرفتي بإخوته، وبناء على قراءة متأنية لكتابه، فإنه يمكن تلخيص ذلك في ثلاثة أسرار: توفيق الله عز وجل، الصبر، ونشأته في بيت علم ودين ووطنية؛ وفي هذا الصدد يقول في مقدمة كتابه الرائعة: «وإني لأود منذ البدء في هذا التقديم، أن أشير إلى أن نشأتي في بيت علم ودين ووطنية كان لها أكبر تأثير على مسيرة حياتي، وكان لي فيها الوالد رحمه الله هو القدوة والمثال. تضاف إليها حياتي الصحية التي جعلتني تلقائياً ومنذ طفولتي الأولى أصرف النظر عن كل ما يتعارض مع سلامتها، أو ما يبعدني عن اتباع القدوة وتحقيق المثال.
وذلكم ما جعلني أعيش شبه سلوك صوفي، هو أقرب ما يكون إلى خمول ذهني لا أثر له في المظهر الخارجي إلا ما قد يكشفه الهم العلمي وما يتطلب بلوغ لذة المعرفة من جهود، قد تصادف ظروفاً تفرض اتخاذ مواقف سياسية تبدو بعيدة عن الهدف العلمي والثقافي، وكنت أرى أن الزهد فيما سوى ما يدرك به هذا الهدف هو أحد مفاتيح إدراكه؛ ومعه الصبر على تحمل المشاق (...) على ما كان فيها من تنقل والتي كان والدي، رحمه الله، يهونها علي وعلى نفسين بمثل قول المتنبي يخاطب ممدوحه الذي كان دائم الترحل:
كل يوم لك ارتحال جديد
ومسير للمجد فيه مقام
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في مرادها الأجسام
وطيلة 300 صفحة، سيجد القارئ العربي في كتاب سيدي عباس، وهو الذي كتب عنه وعن والده العشرات من الكتب العالمية، سيرة خالصة صادقة، وصافية من كل تزييف أو تحريف أو مبالغة؛ وهو ما اجتهد أن يلتزمه ولا يحيد عنه... ثم إن نجاحاته التترى لا يجد لها تفسيراً غير الإيمان بالقدر وحتميته؛ فمن نتائج الإيمان بالقدر جلاء المواقف وزوال الهم والحزن، كما في الحديث النبوي الشرف، لما يكون له من راحة في نفس المومن الذي يتحقق من وقوع ما هو مكتوب له متى أراد الله ذلك... وختاماً أرى من الواجب أن أنوه بزوجته السيدة الفضلى الأستاذة حميدة الصائغ، أمينة سره التي لا تغيب لحظة عن عباس، وتلك خصائص كريمات أهل فاس ومكناس
إذا لم تكن في منزلة المر حرة
تدبره ضاعت مصالح داره