منذ أربعة أعوام كتبت عن والدي «رحمه الله» (أبي يا ضوء حياة لن ينطفئ) واليوم أكتب عن أمي العظيمة وصديقتي الحنونة «رحمها الله» (أمي يا منهل الدعاء والخير الوفير).
لست جازعاً أو قانطاً بل إن إيماني ولله الحمد بالقدر خيره وشره يؤكد بأن الموت حق وانه لا راد لذلك، وعندما تأتي تلك الأقدار لتجلب لي المتاعب والتألم من خلال أمر محتوم لن أذكر كل تفاصيل الحياة الأولية السابقة والحالية ولكن سأتذكر يوم الجمعة 18 رمضان، إذ تشاء الأقدار أن تسقط الوالدة والصديقة والعظيمة (زاهية) مع طلوع الفجر وتُنقل للمستشفى بالباحة بتألم وتوجع ونحن حولها ولا نعلم مصيرها، وعندما أيقنت أن المرض منتشر كان لابد من سرعة نقلها إلى موقع آخر ومركز متخصص، ولله الحمد ولاة الأمر يحفظهم الله أمروا بنقلها إلى المنطقة الشرقية، ويوم الخميس 8-10-1442هـ وصلت للمنطقة وأدخلت المستشفى التخصصي، والذي للأسف أكد لي بأن المرض انتشر وفي مراحله الأخيرة، ولا يستطيعون تقديم أي مراحل علاجية سوى تلطيف الحالة وكل شيء بأمر الله.
اجتمعنا أمامها أخوات واخوان وأقارب للزيارة والأمل والتفاؤل كلنا نواسي أنفسنا ونطمئنها وهي لا تعلم بخطورة وضعها، ولكنني أتوجع ألماً من آهات المرض وخوفي ان المرض خطير، وليس هناك حلول علاجية طبياً، أردد سلامتك يا أمي، تردد الحمد لله، أردد عليّ يا أمي، تردد عليّ، أنا أردد سلامة روحك وقلبك ليته فيني، تردد لا.. الحمدلله والشكر.
التقيت بالفريق الطبي وكبار المستشارين الطبيين وكل شيء أصبح محدوداً، المرض ينتشر والعلاج غير ممكن والمناعة تتضاءل وتضعف.
عزيزتي (زاهية) أوجاعك وألمك زادني فخراً وشرفاً أنني أحاول أخدمك، ولكنني عاجز كطبيب ليس بيده حل والأمل في الله كبير.
أمي الصادقة مع نفسها والآخرين ومعي ومع إخوتي كانت طيلة سنوات مضت تتألم وتتوجع ولكنها تحاملت على نفسها وتحملت الوجع دون أن تخبر أحدًا منا، صار جناح تنويمها بالتناوب والتواجد المستمر كلما سألت عن أبنائها وبناتها العشرة تجدهم مرددين (آمري وتدللي نحن حولك) تشعر بالراحة وتأخذ نعسة وغفوة الراحة من الألم والشعور بقرب أولادها حولها تسأل عن الأبناء بالاسم واحدًا تلو الآخر، وعن البنات أيضا وتجدهم حولها، يتم التناوب والتواجد وفي قرارة نفسي أعلم أن مصير أمي بعد رحمة الله محدود والأيام مهدرة، كل صباح أشرق عليها تشرق الدنيا أمامي ابتهاجا برؤيتها وبعد العودة من العمل أجدها مستقرة انتشي فرحاً وأملاً يحيطني وإخواني ابتسامتها ولكنها تعلم انها في حالة مرضية الكل يشعر بها.
ليلة توقف قلبها قبل يومين من وفاتها نطقت الشهادة وتوقفت قلوبنا ليس جزعاً بل فجأة وفاجعة، لأنه لم تكن الحالة تدعو للقلق وكانت مستقرة ولكنها إرادة الله.
الواحدة ليلاً يوم الاثنين 19-10-1442هـ... بعد توقف قلبها تم انعاشها وعادت للحياة بعد أن أنعشتنا معها ثم دخلت للعناية، أمي الغالية الله معك ونحن حولك هذا أمر الله وسنظل حولك نظرت إليّ لكن النظرة التي شعرت فيها بالعاجز عن تقديم ما ينقذ الحياة وهزت رأسها وتطمنا عليها ثم غادرنا العناية ومع كل زيارة نلتمس أن الرحيل اقترب والوجع لم يعد بأمي وجسدها بل أصبح بقلبي وروحي أمام الوضع الصحي للصديقة والأم العظيمة المربية المميزة التي تابعت مراحل حياتي من طفولتي حتى الخمسين وأكثر سترحل عني.
أمي التي كانت سندي ومحيطي كالنهر المتدفق الذي أنهل منه كل معاني الخير والبركة أمي كانت بالنسبة لي علماً غزيراً ومعرفة وتربية تناضل معي في كل صغيرة وكبيرة ولا تقسو علينا وتطلب منا عدم القساوة على الآخرين كل صيف في مزرعتها وبستانها من الفواكه ما ينعم به كل بيوت البلدة.
يا سبحان الله أيتها الزاهدة الزاهية الأم كيف عشتِ كل حياتك منذ ميلادك حتى وفاتك يا غاليتي التي لن أنسى كل مواقفك وتربيتك والفضل الذي كان لك والدور الذي تمثل بك في حياتي.
أمي قدرها أن تولد وتعيش في الباحة والله يريد أن تمرض وتنقل إلى الدمام ثم تقبر هناك {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}، تلك حكمة إلهية لعل الله يريد بنا خيرًا وتلك إرادة الله العليم الحكيم.
يوم الجمعة 23-10-1442هـ صباحاً رحلت الطاهرة والتقية والنقية «زاهية بنت صالح المكي» إلى جوار ربها في يوم فضيل، آمنت بالله وبالقدر ووارينا والدتي الثرى في مقبرة الدمام في جنازة ولله الحمد ميسرة وبشائر خير وأرجو من الله أن يرزقني برها وبر والدي بعد وفاتهما وأن يسكنهما الفردوس الأعلى من الجنان وأن ييمن كتابها وينور قبرها ويوسع مدخلها.
عزيزتي وصديقتي وأمي لن أنسى دعاءك ولن أنسى كم كنت احتاجك بالدعاء والتيسير ودعتك الله يا صديقتي وأنا فداك ولن أنسى ابتسامتك ما حييت، أمي كنت مصدر الإلهام والنجاح في حياتي وكنت الفخر الذي أملكه ولم أتشبع من خدمتك وسأظل جائعاً ومتعطشاً لدعائك ونهلك الغزير.
** **
- علي بن سعد الجامع