حَبيبٌ مِنَ الأَحبابِ شَطَّت بِهِ النَوى
وَأَيُّ حَبيبٍ ما أَتى دونَهُ البُعدُ
رحم الله ذاك المحيا وضّاحُ الجبين، الذي غاب عنا، وعن أسرته ومحبيه..، تغمده المولى بواسع رحمته - فهو زميل دراسة لا زميل فصل بالمرحلة الثانوية بمعهد الرياض العلمي عام 1374هـ، فتأثرت كثيرًا، وحزنت على غيابه عن الدنيا، وعن نواظرنا، وعن أسرته ومحبيه..، وهذه سنة المولى جلّ جلاله في خلقه على تتابع من انتهى رصيده الزمني من أيام الحياة الدنيا..، حيث فرت روحه الطاهرة إلى بارئها ليلة الجمعة 1 - 11 - 1442هـ - مُتزامنة مع نهاية شهر شوال..، ثم أديت صلاة الميت عليه عصر يوم الجمعة..، حيث أمّ المصلين ابنه معالي الشيخ سعد بمقبرة العود بالرياض. وقد عاش مستشارًا للملوك ودفن بجوارهم. ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال الابن في تلك اللحظات الموجعة لقلبه، وهو يكفكف دمعات عينه حُزنًا ولوعة وهو يشاهد جثمان والده أمام عينيه فوق نَعشه، وقد جال بخاطره معنى هذا البيت:
فَلَستَ بِمالِكٍ عَبَرات عَينٍ
أَبَت بِدُموعِها إِلّا اِنهِمالا
كان الله في عونك أبا عبدالعزيز وعون إخوتك وأبنائه - وقد شهد الصلاة عليه عدد من الأمراء والعلماء وجموع من محبيه، داعين له بالرحمة وحسن الوفادة من رب العالمين، وبطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله بنهوض جميع الخلائق ليوم الحساب، والعبور على متن الصراط المستقيم إلى دار النعيم المقيم برحمة المولى وفضله.
وقد حلقت بي الذاكرة إلى أيام الدراسة الجميلة مُتذكرًا لقاءاتنا في فناء المعهد العلمي خلال الفسح الطويلة وتجاذب أطراف الأحاديث الودية مع الشيخ ناصر وزميلنا الشيخ الحبيب عبدالعزيز بن محمد الداود -رحمهما الله-..، فما أجمل وأحلى تلك الأيام والسويعات..، ولكنها لا تدوم أبدًا.
تعزَّ فلا إلفين بالعيشِ مُتّعا
ولكنْ لورّادِ المَنون تتابعُ
فالشيخ ناصر (رحمه الله) اجتماعي بطبعه وسجيته، يألف ويؤلف، يستقبل أقاربه وضيوفه بحفاوة وإكرام، فهذه من سعادة الإنسان فالأحاديث الودية الممتعة تشرق في شعاب النفوس بهجة وسروراً، وقد صدق القائل:
وَما بَقِيَت مِنَ اللَذاتِ إِلّا
مُحادَثة الرِجالِ ذَوي العُقولِ
وخلال عمله بالحرس الوطني تم تأسيس إدارة للشئون الدينية، وأسهم رحمه الله في إنشاء مدارس تحفيظ القرآن الكريم، وأدى هذا إلى إيجاد عناصر طيبة من المرشدين والوعاظ في جميع قطاعات الحرس الوطني..، أما عن علاقته بملوك وأمراء الأسرة المالكة فهي وثيقة متأصلة، وهي امتداد لعلاقة والده العلامة مع ملوك وأمراء الدولة السعودية الرشيدة، وهي علاقة محبة وإخلاص، مما جعله يحظى بثقة واحترام من الجميع..، وكانت له علاقة خاصة مع الملك خالد -رحمه الله- قبل توليه الحكم، ولما تولى الملك خالد -غفر الله له- رغب أن يصحبه الشيخ ناصر وأن يكون مرافقاً له في حله وترحاله. وبعد نحو سنتين من بداية حكم الملك خالد صدر أمر ملكي بتعيين الشيخ ناصر مستشارًا في الديوان الملكي برتبة وزير، وظل يعمل في هذه الوظيفة المشرفة حتى وفاته رحمه الله..، حيث حظي بتقدير الملك فهد بن عبدالعزيز، ثم الملك عبدالله بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير سلطان بن عبدالعزيز -تغمدهما الله بواسع رحمته- ثم استمر هذا التقدير في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهد الأمير محمد بن سلمان حفظهما الله.
وقد سعدت بمجاورة والدهم الشيخ العلامة عبدالعزيز في حي العجلية، الواقع غربي شارع العطائف بالرياض، أثناء دراستي بكلية اللغة العربية عام 75 -1378هـ، والصلاة في مسجده وزيارته بين حين وآخر، فأجد منه كل ترحيب وتوجيه أبوي عندما علم أن والدي الشيخ العالم الجليل الذي يعد من كبار العلماء - رحم الله الجميع -.
وقد جلس الشيخ ناصر بعد وفاة والده الشيخ العلامة عبدالعزيز للتدريس بعد صلاة الفجر مكان والده في المسجد المجاور لمنزلهم، وكان من الذين يحضرون ويقرأون في هذه الحلقة: عثمان بن شعلان وصالح بن سبتي وأحمد السناني وعبدالله بن سالم الحميد وعبدالله بن مسعود وعمر الحصين ومحمد بن صالح الجاسر ومحمد العجلان وغيرهم. وكان الشيخ ناصر جم التواضع محب للبذل في أوجه البر والإحسان..، ولا يفوته يوم فيه أجر ووفاء..، يواسي المفجوعين في وفاة غاليهم ويشارك في أفراحهم، وهذه من الصفات المحمودة التي يغبط المتصف والمتحلي بها.
كما أذكر منذ عقود طويلة من الزمن أنه زارنا بحريملاء - رغم مشقة الطرق آنذاك - حيث ذهبنا معاً لمواساة الشيخ محمد بن عبدالعزيز الشدي في وفاة ابنه الأكبر خالد إثر حادث سير..؛ وهذا لا يستغرب على أمثال الشيخ ناصر - تغمده المولى بواسع رحمته ومغفرته:
فأحْيِ ذكركَ بالإحسانِ تزرعُه
تجمعْ به لكَ في الدُّنيا حياتان
وعلى أي حال فالشيخ ناصر (رحمه الله) له باع طويل في حفظ الكثير من أخبار العرب، وقصصهم القديمة والحديثة مما كون لديه ملكة التعبير في المجالس والمحافل، كما كان يجيد نظم الشعر العربي والنبطي في مختلف الأغراض:
لم يبق شيءٌ من الدنيا تُسَرّ به
غيرُ الدفاترِ فيها الشعرُ والسّمَرَ
تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته، وألهم أبناءه وبناته وعقائله ومحبيه الصبر والسلوان.
تولى وأبقي بيننا طيب ذكره
كباقي ضياء الشمس حين تغيب
** **
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف - حريملاء