د. محمد بن إبراهيم الملحم
قبل ثلاثة أسابيع، بدأت بحلقتي الأولى لحديثي حول «كيف تعود المدارس» بعد هدوء عاصفة جائحة كورونا، لكني توقفت بعدها مباشرة قاطعاً السلسلة بمقالتين حول الفصول الثلاثة لأهمية الموضوع، وأستكمل اليوم لأقدم تصوري حول ذلك، مذكراً أن عودة الدراسة إلى المدارس العام المقبل، ينبغي أن تكون بطريقة التدريس الهجين Hybrid: تعليم عن بُعد بالإضافة إلى تعليم حضوري، وأقدم رؤيتي حسب ما تقتضيه المتطلبات التربوية لكل مرحلة، فتصوري عن الدراسة في مثل هذا النظام ليس موحداً لجميع المراحل، فلكل منها متطلباته الخاصة، والتركيز حول المراحل الدراسية العليا، خاصة المتوسطة والثانوية، وأعتقد أن الوزارة لاشك قد رصدت التجربة بدراسات تقييمية دقيقة تمكنها من تشخيص المشكلات وتحديد نقاط الضعف لتتلافاها الأعوام المقبلة سواء كانت في مهارات أو ممارسات المعلمين أو هي في تفاعل الطلاب وسلوكهم نحو العملية التدريسية والاختبارية، وبالتالي يمكنها اليوم أن تبدأ الدراسة للعام المقبل بإطار يكفل تجاوز هذه العقبات من خلال الجزء الحضوري، وأعتقد أن أبرزها في مهارات المعلمين التدريسية وكذلك مشكلات عدم التزام الطلاب الأكبر سناً بالانضباط في القاعات ومصداقيتهم في الحضور. وأكبر إشكالية نعرفها جميعاً هي مصداقية الاختبار عن بُعد، حيث لمسنا جميعاً كيف أن علامات أغلب أو كل الطلاب كانت الدرجة النهائية! ومع أن هذا المرض موجود سابقاً في التدريس عن قرب (في المدرسة) لكنما استفحل أمره في التعليم عن بُعد، وهنا أعتقد أن فتح المدارس سيوفر المجال للمدرسة لإجراء الأنشطة التقييمية عن قرب ضمن الحضور في المدرسة، سواء كانت أنشطة تقييم ختامية كالاختبارات النهائية أو مرحلية كالاختبارات القصيرة، وأرى أن يكون ذلك مع بقاء التدريس عن بُعد، حيث تستطيع أن تتصوره مثلاً في حضور الطالب للمدرسة يومين إلى ثلاثة أسبوعياً، وخلال هذه الأيام يبرمج المعلم أنشطته التقييمية ودروسه العملية مثل تلك التي تكون في المختبر مثلاً، وباقي الأيام يتلقى الطالب دروسه عن بُعد من المنزل، وإني أعلم أن جدولة ذلك قد تكون متعبة نوعاً ما، ولكني أجزم أن إبداعات مديري المدارس ووكلائهم وخبراتهم العميقة في مثل هذه الأمور كفيلة بإيجاد نماذج قابلة للتطبيق، فما أطرحه هنا هو المبدأ وبإعمال الفكر فيه تنفيذياً، فإن الخبرات كفيلة بتحقيقه وتطويره.
التدريس عن بُعد يحتاج أيضاً إلى أفكار إبداعية جديدة لتنشيط الطلاب الشباب وبعث همة التعلم لديهم، وهذا قد يكون من خلال إبداعات المعلم في أنشطة جديدة وملفتة للنظر، تشد انتباه الطلاب وتجذبهم للمنصة، وقد يكون من خلال تطبيقات إلكترونية تضاف إلى المنصة لتقدم هذه التطبيقات أفكاراً إبداعية تخدم نموذج التدريس عن بُعد، وأبرز مهارة أو عادة يجب أن تستهدفها هذه التطبيقات أو أنشطة المعلم الإبداعية هي التعلم الذاتي، حيث تكون هذه القيمة محوراً تدور حوله هذه الأفكار، فمتى تعرف طالب المرحلة المتوسطة أو الثانوية على مهارات التعلم الذاتي، وأتقنها، وكرر ممارستها، وكان ذلك في نطاق إبداعي «ممتع»، فإنه سيخلق لديه حب العلم والتعلم، ويزرع لديه الثقة في الذات، والتي سيحتاج إليها غداً إذا التحق بالجامعة، حيث يمثل فيها اكتساب المعرفة «ذاتياً» أكبر تحد لأبنائنا وبناتنا الذين يأتونها من مدراسنا التي «عودتهم» على وضع لقمة الغذاء المعرفي في أفواههم.
التدريس في المرحلة الابتدائية أنظر إليه في قسميه: الصفوف الأولية، والصفوف العليا، كل على حدة، لاختلاف ظروف كل منهما حسب متطلبات النمو المعرفي والنفسي لكل فئة. فطلاب الصفوف العليا (من 4 إلى 6) يمكنهم التعامل مع المنصة بتلقائية أكثر مما يجعل بقاء نموذج التدريس عن بُعد مطلباً، وإن كان بدرجة أقل مما هي في المرحلتين المتوسطة والثانوية، فأقترح أن يكون لهم يوم واحد أسبوعياً على الأقل للتعلم عن بُعد من المنزل، ويكون ذلك لكامل طلاب المدرسة في تلك الصفوف بنفس اليوم من الأسبوع، وهدف ذلك أولاً تحقيق المصلحة الصحية في تخفيف الاختلاط إحصائياً، وثانياً أن الطلاب بينهم علاقات اجتماعية داخل المدرسة، فتتوفر لهم أربعة أيام كاملة للالتقاء والتفاعل الاجتماعي المهم لصحتهم النفسية ونموهم الشخصي. وبالنسبة لطلاب الصفوف الأولية، فتكون الدراسة عن قرب (في المدرسة) ويوقف التعليم عن بُعد لأسباب عدة، أهمها أن نوعية المهارات التي يتلقونها في هذه المرحلة تتطلب الإشراف المباشر من المعلم والتفاعل الشخصي بينهم كأطفال، كما تمثل المدرسة لهذه الفئة وسيلة مهمة لبناء الشخصية والتعود على حياة ومجتمع جديد خاصة طلاب الصف الأول المستجدين، ويلعب طلاب الصفين الثاني والثالث دوراً في هذا المجال أيضاً، فهم يمثلون المجتمع الذي يختلط فيه الطالب المستجد ويتفاعل معه فوجودهم مهم لهذا السبب أيضاً، ولكي تعود الدراسة عن قرب بهذه الصفة ولهذه الفئة المهمة (بالإضافة إلى طلاب رياض الأطفال) فإن تدريب المعلمين على احتياطات التباعد الاجتماعي، وبذل غاية الجهد في تعويد الطلبة على ذلك هو أولى لأولويات في هذا الشأن، وهو ما أتمنى أن تعمل وزارة التعليم على التخطيط له مبكراً وتوفير احتياجاته التنفيذية.