نورا العلي
في ذلك الصباح الكئيب، النذير بفاجعة، حيث انقطع الأمل، وحلت الكارثة، رحلت صديقتي، تركتني وحيدة، أتجول في رسائلها ومحادثاتها، أكرر سماع صوتها.... كأنه أعذب وأجمل من ذي قبل... يا الله، كيف أصبح سماع صوتها أمنية مستحيلة... أنظر في صورتها، أحدّق بها، وأنا فارغة من كل شيء، إلا وجعي واشتياقي وذاكرة مكتظة بها، لم أستطع تميّز بعضها من بعض، ولسان حالي كصاحب البيت:
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
هزمنا الموت، هزمنا يا صديقتي، طوى كل الأحلام والآمال، قذفها صباح ذاك اليوم في وجهي، هازئاً بتلك الأمنيات التي تلاشت بلمح البصر.
الفقيدة منيفة الفندي، فقيدة الفن والأدب، قيمة أدبية، وقامة ثقافية، لم تأخذ حقها من الذيوع والانتشار، ولا أظنه تقصيراً منها، فما برحت تطرق الأبواب لتصل أعمالها، ولكن وللأسف ما من مجيب.
الأستاذة منيفة، مؤلفة لا تمل الكتابة، روائية، وكاتبة سيناريو وحوار، ومبدعة في الانفوجرافيك، والأنميشن..
كان لي شرف مشاركتها في كتاب نساء من المملكة، كانت تأمل وتعمل من أجل أن تصل حكايات هذا الكتاب لتصبح حلقات مسلسلة كطاش ما طاش.
يشقّ على نفسي ويوجعني أن نكتب عنها بعد رحيلها... مع الأسف هذا قدر كثير من المبدعين، ألا يعرفهم الناس إلا بعد رحيلهم.
منيفة.. ذات الروح المتوثبة، والنظرة الطموحة، مثقفة من الدرجة الأولى، من الطراز الرفيع، ما أن تتحدث، حتى تأخذني الدهشة، ويتملكني العجب والإعجاب، إذ كيف لعقل أن يستوعب كل تلك المعارف والعلوم والثقافات.
منيفة الفندي، تعمل بشغف، لا تعرف الكلل والملل، لم تقم بعمل إلا وكان بديعاً، كأنها تضع نصب عينيها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم (إذا عمل أحدكم عملاً فليتقنه) في مجال التعليم حصلت على جائزة الشيخ حمدان آل مكتوم للمعلم المتميّز. ولو قُدِر لها الوصول لكانت الأولى في مجال الدراما وكتابة السيناريو، رحيلها خسارة فادحة للوطن.
قالت لي ذات يوم، أثناء مرضها الأخير مقولة محمود درويش: (إن متُّ قبلك أوصيك بالمستحيل) تقصد بذلك روايتها (للحياة حد أقصى) قلت وأنا ضاحكة وهازئة مما تقول.. ما استطعتِ في حياتك أن تصلي لما تريدين، وأنتِ من أنتِ، فكيف لمثلي بأن تكمل المسيرة وحدها ؟!
وأنا أتحدث معها، لم يدر بخلدي أو يجل في خاطري، أن الموت يقف بيننا، ويتربص لها، يا لهذا الأمل، وذاك الإحساس.
فجأة خطر لي كلام زوربا اليوناني إذ يقول: (تختنق، لأنك تفهم فجأة أن الحياة تافهة وبائسة، غير لائقة بالإنسان).
أشد ما يؤلمني أنها رحلت دون أن تحقق ما تصبو إليه، نذرت حياتها للأدب والثقافة، والتأليف وكتابة السيناريو.
كنّا نتقاسم حسرة عدم وصولنا لما نريد معاً، وبفراقها تفاقمت الحسرة، كان حضورها يمنحني القوة والثبات والزهو، وبفقدها أصبحت كجندي أعزل من السلاح، في معركة.
ثمة فقد يشطرنا نصفين... نصف يذهب مع من ذهب، والآخر يعيش حسرة غيابه.
قلت لها ذات يوم: لنترك الكتابة ونتجه لعمل تجاري، علّنا نحقق على الأقل كسباً مادياً نعيش به حياة رغيدة. قالت: أنا ورقة وقلم، ولا أحسن غيرهما، وحينما قنعتْ من الغنيمة بالإياب، قررتْ أن تبني بيتاً صغيراً متواضعاً في المزرعة وتعيش فيه لتكتب، وتتأمل حفيف الشجر، وتغريد الطيور وشروق الشمس وغروبها، وشرعت في البناء منذ فترة، وزرعت القليل من الخضروات والورقيّات، تريد أن تعتني بصحتها وتأكل من غرس يدها... وحتى هذه الأمنية ضنت بها الحياة، رحلت بعد أن نبت الزرع ولكن.... لم يكتمل البناء.
إلى رحمة الله أيتها الصديقة الغالية، ستبقين في القلب والذاكرة، حتّى اللحاق بك.