عبدالوهاب الفايز
الحق أقول لكم..
لم أستغرب ردود الفعل الواسعة على المقالين السابقين هنا حول ضرورة التحرك لمعالجة المشكلة الكبرى لدينا وهي: التسويق الزراعي، فهناك من اتصل ليشكر على طرح الموضوع، وهناك من أرسل مقترحات يرى أهميتها، والأهم أن بعض ردود الفعل جاءت من أشخاص كنت أعتقد أنهم بعيدون عن إدراك الإشكالات المعقدة للقطاع الزراعي، إلا أن هؤلاء كانت لديهم أفكار وتصورات واقعية عملية لحل إشكالية التسويق الزراعي، وهذا مؤشر على أن (المعاناة) في كل بيت، وهي الدافع للتدبر والتفكير العميقين، وبناء التصور الواضح لاجتراح الحلول، و(الحكم على الشيء فرع عن تصوره)، كما يقول الفقهاء.
ما يهمنا في موضوع التسويق الزراعي الفواكه والخضار والتمور، فالحبوب بأنواعها وضعها مستقر، والحكومة سيطرت على السلع الأساسية، ويتم استكمال معالجة الأمور الإستراتيجية للأمن الغذائي. المشكلة باقية في الفواكه والخضار والتمور. فهذه يعبث بها (التستر التجاري) الذي يُعد الآن المشكلة الرئيسة للقطاع الزراعي. وهي المشكلة التي يكاد يُجمع عليها المتفاعلون مع هذا الموضوع، إذ يرون أن التستر أصبح يحرمنا خيرات قطاعنا الزراعي.
فيما يخص الفواكه، سواء التي يصعب زراعتها أو تزرع بكميات قليلة وتستورد من الخارج، هذه عادة يستوردها تجار كبار وعندما تصل الأسواق.. هنا نرى الصورة التي تكشف خطورة إهمال التسويق. فبسبب الفوضى في الأسواق نخسر مرحلة التنظيم الجيد لاستيراد الفواكه عبر التجار الكبار، فهذا التنظيم ينتهي إلى الفشل في الأسواق. فعندما تصل الفواكه في (التريلات المبردة) تستقبلها تكتلات العمالة المنظمة وتفوز بنتيجة الحراج عليها. وبعد هذه المرحلة تبدأ معاناة المزارع المحلي والمستهلك.
المزارع والمستهلك تُستخدم ضدهما سياسات حرق الأسعار، فالمزارع الصغير لا يملك آليات النقل والتخزين المثالية لحفظ المنتجات، ولا يملك فسحة الوقت مما يسهل لتكتلات العمالة محاربته وبالتالي دفعه إلى التستر التجاري. (وهذا الذي يجعلنا نتحفظ على الجهود المبذولة لمكافحة التستر، لأنها تُسكن آلام العَرَض ولا تعالج المرض!). أما المستهلك فهو دائماً أمام وضع مضطرب للأسعار، فقد تحلق عاليًا، أو تنخفض بصورة تغري بالشراء أكثر من الحاجة، وهنا أحد مسببات الهدر الغذائي الذي تسمعون عنه، والذي تقدره وزارة البيئة والزراعة بحدود 50 مليار ريال سنوياً! شركات التسويق المحترفة تستطيع التحكم بالعرض والطلب وهذا في صالح جميع الأطراف.
بالنسبة للخضار بأنواعه، فالوضع سيئ ومؤسف! على سبيل المثال، لنأخذ وضع زراعة الخضراوات في القصيم حتى نرى حجم المشكلة. في هذه المنطقة، التي تعد موئل الزراعة الأقدم حيث الخبرة والمعرفة المتوارثة، لم يستطع المزارعون الصمود بسبب عبث الأسواق، فقد خرج أغلبهم من زراعة الخضراوات مضطرين وخوفاً من تراكم الخسائر، وكالمعتاد: قاموا بتأجير مزارعهم للعمالة. بعض هؤلاء العمالة استقدم كامل العائلة ليعيشوا معه في المزرعة!
هذه العمالة، بسيطة الحال والخبرة، طورت حالة احترافية لإنشاء سلسلة إمداد خاصة بها. فكل جنسية سيطرت على نوعية معينة من الخضار. سيطرة منظمة في الإنتاج والبيع. الأمر المؤسف الذي يراه الناس هناك ويتخوفون منه هو استخدام هذه العمالة المفرط للمبيدات الزراعية الرديئة، إذ لا يلتزمون مطلقاً بتعليمات وإرشادات الاستخدام وفترات التحريم، يرشون بالليل ويقطفون الصباح!
زراعة الخضراوات حساسة للظروف والمتغيرات المناخية وتتطلب معرفة فنية بطرق القطف المناسبة وآليات النقل والتخزين، بالذات في ظروفنا المناخية الصعبة وبعد المسافات بين المزارع والأسواق. كما قلنا سابقًا.. حلقة التسويق الزراعي لا يمكن أن يتصدى لها الأفراد. هذه توكل لكيانات متخصصة، تعاونية وشركات تسويق كبرى، يُوكل لها وحدها إدارة هذه المنظومة الحساسة للأمن الغذائي، وذات الأثر المباشر في صحة الناس.
وهنا تأتي أهمية التدخل الحكومي، فالأسواق في وضعها الحالي تقدم صورة حية لغياب الأجهزة الحكومية وتأخرها في تقديم الحلول الفعالة. وهذا يقدم الحاجة لضرورة تدخل الأجهزة السيادية، مثل مجلس الشورى، لحفز الحكومة لكي ترى المشكلات الرئيسة في قطاع التسويق الزراعي، فنحن نتألم عندما نرى ثرواتنا المائية تُستنزف، وصحتنا تُهددها الممارسات السيئة، ونخشى فشل الاستثمارات في المشاريع الخاصة التي تأسست للتسويق الزراعي، فهذه قد لا تتمكن من منافسة تكتلات العمالة، خصوصًا أن أغلب المستهلكين تعودوا على ترجيح كفة السعر على الجودة.
وحتى نخشى أن تجد وزارة البيئة صعوبات لتطبيق سياسة الممارسات الزراعية الجيدة في المملكة بما في ذلك توفير شهادة (سعودي جاب)، وقد تتعثر الإستراتيجية الزراعية بما تتطلع إليه من توطين وتبني للتقنيات الحديثة مثل (الزراعة العمودية).
سوف نستمر نتحدث في شجون الزراعة حتى يقال: (الخبل ما ينسى سالفته!).