د. محمد بن فهد بن عبدالعزيز الفريح
يممتُ وجهي مع أحد أصحابي إلى مزرعته إذ أعطى الشيخ ناصر -رحمه الله- موعداً له هناك. دخلنا بعد العشاء فلما رآنا قام مرحباً. كنتُ حينها طالباً في المرحلة الجامعية. تعرف علينا، ثم قال: الفريح. قلت: "سَم", فقال: تعرف الكوع من الكرسوع؟ فقلت: نعم, وتمثلت بقول الناظم:
وعظمٌ يلي الإِبهامَ كوعٌ وما يلي
لخنصره الكرسوعُ والرُّسغُ ما وسط
فقال: أحسنت. والبوع أين محله؟ فقلت: في القدم, رفع الله قدركم, فظهر الفرح عليه لجوابي, ورأيت الأُنس عليه -رحمه الله-, ثم أكمل قول الناظم:
وعظمٌ يلي إبهام رِجْلٍ ملقب
ببُوعٍ فخذ بالعِلم واحْذرْ مِن الغلط
سأله صاحبي عن سماحة الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- فأثنى خيراً ثم قال: ذهبتُ مع الملك خالد -رحمه الله- لزيارته في المستشفى. ومما أذكر أن الشيخ ابن حميد قال للملك خالد: الله يبقيكم للإسلام والمسلمين, ويمد في عمركم على طاعته. فقال الملك خالد -رحمه الله-: يا شيخ عبدالله! الله يبقيك أنت وزميلك ابن باز للإسلام والمسلمين, أما أنا فورائي أخوي فهد يسد المسد ويقوم باللازم, لكن أنتم أين الذي يسد مكانكما؟!
وذكر الشيخ ناصر -رحمه الله- أنه رأى في المنام أو أنه ينقل لنا رؤيا أن إحدى منارات الحرم المكي سقطت, فأوَّلها بموت الملك خالد رفع الله نزله في الجنة.
وأخبرنا أن ابنه معالي الشيخ الجليل المتفنن سعد -حفظه الله- يعمل على كتاب مصنف ابن أبي شيبة تلك الأيام, وكان مسروراً جداً بأن ابنه يصنع هذا العمل الكبير الذي يخدم به السنة وأهل العلم وطلابه, فجزاه الله خيراً.
حضر العشاء فقام يدعونا إليه، وكان العشاء موضوعاً على سفرتين فتعديتُ إلى السفر الثانية؛ لئلا أزاحم أحداً يريد الجلوس مع الشيخ ناصر، فقال الشيخ ناصر: تعالوا هنا, موجهاً الخطاب لي ولصاحبي, فجلستُ عن يمينه وصاحبي عن يساره.
شربنا الشاي بعد ذلك ثم استأذناه في الانصراف فكان يقول: زورونا لا تقطعونا, فأنا أحب طلاب العلم وآنس بهم.
آنس الله وحدته, ونور قبره, وأعلى نزله.
ونحن في طور الانصراف أشار لأحد الذين معه, ففهم إشارة الشيخ, فما راعنا إلا عند السيارة بعربية يدفعها فيها ما يقارب عشرين كرتوناً من رطب "الدخيني" الذي تم خرافه من المزرعة ذلك اليوم.
كالبحرِ يقذِفُ للقريبِ جواهِراً
جُوداً ويبعثُ للبعيد سحائِبا
كان -رحمه الله- كريماً بنفسه وجاهه وماله, فكرمه استفاض في الناس, واشتهر بينهم, يقضي حاجاتهم, ويشفع في تحقيق طلباتهم, فهنيئاً له حسن السيرة التي خلفها بعده.
كان داعياً إلى الخير, ناصحاً للجميع, صاحب رأي, محل الثقة من ولاة أمر هذه البلاد المباركة -حفظها الله-, صاحب سرِّهم ومشورتهم, عاش محمود الذكر, ومات طيب السمعة والصيت.
كان ينصح -رحمه الله- بإشغال الوقت بذكر الله وقراءة القرآن, ويطبق ذلك عملياً, وكان يبادر إلى الصلاة, ويشارك الناس أفراحهم, ويواسيهم في أتراحهم, أحب الناس ونفعهم, وكان يسارع في الإحسان إليهم. تربى في كنف والده الشيخ عبدالعزيز "أبو حبيب", أخذ منه العلوم والمروءات, كان نعم الخلف بعد والده.
درس بالمعهد العلمي بالرياض عام 1372هـ, ثم التحق بكلية الشريعة، وتخرج فيها عام 1379هـ, عمل مدرساً بالمعهد العلمي بالرياض، ثم عُيّن في الإرشاد الديني بالحرس الوطني, فأنشأ إدارة الشؤون الدينية فيه ثم أصبح مديراً عاماً لها. افتتح مدارس تحفيظ القرآن بالحرس الوطني وأشرف على بناء عشرات المساجد في أماكن ومعسكرات الحرس الوطني بالمملكة.
اختاره الملك خالد -رحمه الله- مستشاراً في الديوان الملكي برتبة وزير.
كان له حلقة علم وتدريس في المسجد الذي بجوار منزله بالعجلية بالرياض, جلس فيها بعد وفاة والده عام 1386هـ، يقرأ الطلبة فيها من المطولات في التوحيد والفقه والحديث، واستمرت سنوات.
رحم الله الشيخ ناصراً، وأكرم مثواه، ورفع نُزله ومنزلته، وأخلف على أهله وعلى المسلمين خيراً.
** **
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء