د.عبد العزيز سليمان العبودي
تعوذ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من الجوع فكان يقول «اللَّهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ منَ الجوعِ، فإنَّهُ بئسَ الضَّجيعُ». هذا الضجيع، قد يكسر من الشموخ والعزة، وقد يضطر من يبتلى به، إلى سلوك عادات لم تكن من سجيته. كما قال المتنبي في سجنه، (وَالجوعُ يُرضي الأُسودَ بِالجِيَفِ). وعلى عكس المتنبي يرى عبد الرزاق عبد الواحد، أن عزيز النفس لن يغير الجوع من طباعه، حيث يقول (قد يأكلون لفرط الجوع أنفسهم.. لكنهم من قدور الغير ما أكلوا). وفي الجانب الآخر، فمن يمسه الجوع سيشعره بمعاناة الجوعى وآلامهم ويحسّن من عاداته وتصرفاته، كما قال حاتم الطائي (لَعمرُك لقدماً عضّني الجوع عضّةً.. فَآليتُ ألا أمنع الدهر جائِعا). والتناقض العجيب حينما يأتي الجوع مع توفر مصادر الرزق كالمطر والعشب. فإذا كان المطر رمزًا للعطاء والخير والنماء، فالمطر لدى بدر شاكر السياب يرتبط بالجوع، ففي أنشودة المطر يردد (وفي العراق جوعْ) ويؤكد ذلك (ما مرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوعْ) وحتى العشب، ربطه بالجوع (وكلَّ عام حين يعشب الثرى نجوعْ). وهو هنا لا ينسب الجوع إلى الفقر وقلة المحصول، بل يلمح إلى أسباب أخرى للجوع كما يقول (وينثر الغلالَ فيه موسم الحصادْ.. لتشبع الغربان والجَرادْ). ويتم تعريف الجوع بأنه الشعور بالحاجة إلى الطعام، وضده الشبع وهو امْتِلاء البطن الشديد منه. والشبع لا يقتصر فقط على الشبع من الطعام. فقد ورد في الأثر «اثنان لا يشبعان: «طالب علم وطالب مال». والمقصود هنا الجوع المستمر للعلم أو المال. وقيل: «إن للعلم إضاعة وهجنة وآفة ونكدا واستجاعة»، والمقصود باستجاعة العلم أي ألا تشبع منه.
وإذا كان الشعراء قد تناولوا الجوع في شعرهم. فمن واجب العلماء أن يدلوا بدلوهم فيما وراء الجوع. فخلال الحربين العالميتين، أصبح حرمان المدنيين من الطعام إستراتيجية قتالية وأسلوبًا للإبادة الجماعية. وقد قام الكثير من الأطباء والباحثين بعد ذلك بعمل دراسات وأبحاث في الفيزيولوجيا المرضية للمجاعات. ففي فبراير 1942، قام الأطباء بعمل الفحوصات البيوكيميائية والدمية والميكروسكوبية والسريرية والتشريحية، في مستشفيين في الحي اليهودي بوارسو، بولندا. هذه الفحوصات تدور حول التغيرات في جسم الإنسان تحت تأثير الجوع طويل الأمد. وقد نشر ميليكوفسكي، أحد أعضاء الفريق نتائج الدراسة في كتاب يحتوي على النتائج الأصلية لـ 3658 عملية تشريح، بما في ذلك 492 جثة لأشخاص ماتوا من الجوع. وقد أعد الفريق وصفًا تفصيليًا لأعراض الجوع، بناءً على الملاحظات السريرية والتشريحية المرضية. حيث كان التأثير الأكثر وضوحاً للجوع هو فقدان الوزن المصحوب بضمور الخلايا الدهنية في الأنسجة تحت الجلد وانخفاض كبير في حجم الأعضاء الداخلية وغير ذلك من الملاحظات. وقد كانت الملاحظة الأكثر إثارة للاهتمام هي قدرة الجسم البالغ على التكيف مع نقص الغذاء عن طريق تقليل التمثيل الغذائي أثناء الراحة بنسبة تصل إلى 60 في المائة؛ لذلك، لم تحدث حالة الجمود إلا بعد فترة طويلة من الجوع. حيث إنه في حالة الجوع، يستخدم الجسم الجليكوجين المخزن في العضلات. ويؤدى استنفاد جميع احتياطيات الجليكوجين إلى صدمة سكر الدم والموت العنيف. ومن الظواهر الأخرى الملحوظة في الحي اليهودي، ما يسمى بـ «الشفاء الذاتي» للعديد من الأمراض، بما في ذلك عدم انتظام ضربات القلب، والحساسية، والسكري، والعصاب، وغير ذلك.
وحديثاً، قام الدكتور روبيرت سوليفان برصد حالة توفيت جوعاً، ونشر هذا الرصد في مجلة الطب الباطني العام، في سنة 1993م. حيث إنه، في بعض الحالات المرضية الميؤوس منها، يتم تقديم التغذية عبر الأنابيب لإطالة أمد الحياة وتجنب ألم الموت جوعاً. ومع ذلك، رفضت مريضة، عمرها 78 سنة هذا الأسلوب في التغذية، واختارت الموت جوعاً. وقد بقيت المريضة مدة 41 يوماً بدون تغذية حتى وافتها المنية. وكانت خلال هذه الفترة تستقبل أصدقاءها وكتبت العديد من الرسائل. وذكر سوليفان في مناقشة البحث «أنه من غير المحتمل أن يعاني الصائمون من ألم ناتج عن الامتناع عن السوائل أو الطعام. وفي الواقع، يمكن توقع نشوة خفيفة، مصحوبة بزيادة في تحمل الألم. ويؤدي عدم تناول السوائل عن طريق الفم إلى جفاف الفم، والذي يمكن تخفيفه برقائق أو مسحات الثلج». وتكثر الدراسات الآن على ما يطلق عليه الصيام المتقطع. وقد عرضت دراسة تم نشرها في مجلة الجمعية الأمريكية لوظائف الأعضاء عن طريق الباحث جو-هي-لي، فوائد الصيام المتقطع الوقائية ضد الأمراض الأيضية والشيخوخة وأمراض القلب والأوعية الدموية والأمراض التنفسية العصبية.
وفي كتاب (الأكل الواعي للكاتبة يان تشوزن) قسمت المؤلفة الجوع إلى ثمانية أقسام وهي الأنواع الحسية الأربعة المعروفة (جوع العين والأنف والفم والأذن عبر الإحساس بالطعام من خلال رؤيته أو شمه أو تذوقه أو سماع نقاش يدور حول الطعام). ثم تأتي المؤلفة لأربعة أنواع أخرى من الجوع وهي، جوع المعدة: وهو الجوع البيولوجي الطبيعي. ثم جوع العقل: الذي يستند على الأفكار مثل «يجب أن آكل المزيد من البروتين»، «لا ينبغي أن آكل الخبز». والعقل يحتوي على الناقد الداخلي الذي يحكم على ما نأكله أو ما لا نأكله، مع صعوبة تلبية طلباته في كثير من الأحيان. وبعد ذلك يأتي جوع النقص: أو جوع الخلو، وهو ما يحتاجه الجسم؛ مثل الماء والملح والبروتين والدهون والمعادن والفيتامينات والكربوهيدرات. والنوع الأخير هو جوع القلب: والمعروف أيضاً باسم الجوع العاطفي. فنحن نأكل عندما نشعر بالحزن والوحدة، من أجل راحة أنفسنا. وقد نتعامل مع الطعام كمكافأة، فترتبط الأطعمة المريحة في الغالب بالمشاعر الدافئة للاتصال. ومن خلال التعرف على الأنواع المتعددة للجوع يمكن التعرف على الطرق المناسبة لسد أو ردع هذا الجوع حسب ما تتطلبه الحاجة.
ومع التقدم في جميع مناحي الحياة، لا يزال الجوع يصنف بأنه مشكلة عالمية. فحسب منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة (الفاو)، يعاني ما يقرب من 10 % من سكان العالم من الجوع أو يواجهون انعدام الأمن الغذائي الحاد، مما يمثل تحديات كبيرة لتحقيق الهدف الثاني للأمم المتحدة للتنمية المستدامة المتمثل في «القضاء على الجوع» بحلول عام 2030م. ويتفاقم هذا بسبب العقبات الأخرى التي نشأت، من تغير المناخ إلى تقليص الميزانيات للاستثمار في تحسين النظام الغذائي إلى الصدمات غير المتوقعة مثل مرض فيروس كورونا (كوفيد- 19). بيد أن هناك إمكانية لمواجهة هذه التحديات من خلال سياسات تلتزم بزيادة الاستثمارات المستهدفة من أجل تحسين النظام الغذائي على نطاق واسع. هذه السياسات تشمل وضع نماذج لسيناريوهات النظام الغذائي المستقبلي عبر إنتاج وتوفير الغذاء بطرق اقتصادية، والتغيير في سياسات الهدر والاستهلاك الجائر للموارد الغذائية. هذا الأمر تنبه له المسؤولون لدينا في السعودية، فكانت الصناعة وخاصة في مجال الغذاء أحد الأولويات التي تركز عليها رؤية 2030.
** **
- جامعة القصيم