وزير ثقافة في أكبر دولة عربية يخلط بين الثقافة والفن، ورئيس معرض فرانكفورت الدولي للكتاب يصحّح له مفهومه.
في مذكرات أمين عام جامعة الدول العربية الأستاذ عمرو موسى، التي وزّعت منذ وقت قريب، الجزء الثاني، بعنوان (كتابيه: سنوات الجامعة العربية. أورد الحكاية التالية تحت عنوان: (عمر الشريف أم نجيب محفوظ):
في الخامس من أكتوبر 2004 شاركت إلى جانب المستشار الألماني السابق جيرهارد شرودر، ولفيف من كبار المسؤولين الألمان، وبمشاركة 18 دولة عربية، واتحاد الناشرين العرب، ومكتبة الإسكندرية، ومعهد العالم العربي في باريس، وبحضور 13 وزيرًا من المسؤولين عن الشؤون الثقافية في العالم العربي، فضلاً عن السيدة سوزان مبارك، حرم الرئيس المصري في افتتاح فعاليات الدورة 56 لمعرض فرانكفورت الدولي للكتاب للعام 2004-2005م.
قبل أن أعرض لفعاليات الافتتاح أودّ أن أشير إلى أن نقاشًا دار بشأن من يلقي الكلمات العربية، سواء الرسمية أو كلمة الثقافة العربية، التي هي ضيف شرف المعرض.
في ما يخصّ الكلمة الرسمية تصوّر البعض داخل الوفد المصري أن السيدة سوزان مبارك يمكن أن تلقي تلك الكلمة مع المستشار الألماني شرودر.
قلت لهؤلاء: وفقًا للأعراف من يحقّ له إلقاء الكلمة الرسمية ممثلاً عن العرب هو الرئيس التونسي زين العابدين بن علي؛ باعتباره رئيسًا للقمة العربية، وفي غيابه وبالتشاور معه فقد تمّ التوافق على أن يلقيَ الأمين العام للجامعة العربية الكلمةَ نيابة عن العرب أجمعين، وهو طبعًا ما تم.
أما بخصوص كلمة الثقافة العربية فقد اقترح فاروق حسني، وزير الثقافة المصرية، أن يلقيَها الفنان عمر الشريف؛ باعتباره وجهًا عربيًّا معروفًا على مستوى العالم.
لم يكن لديّ مانع في ذلك، فعمر الشريف فنّان كلّنا نحبّه ونقدّر إبداعه. لكن في أثناء مناقشة برنامج الافتتاح تحدّث السيد فولكر نويمان رئيس معرض فرانكفورت إليَّ وإلى إبراهيم المعلّم قائلاً: «أنا مثلكما أحبّ الفنان عمر الشريف، لكنَّ لي وجهةَ نظرٍ أتمنّى أن تأخذوها بعين الاعتبار. أرى أن الأَوْلى بإلقاء كلمة الثقافة العربية في حفل الافتتاح هو الأديب العربي الكبير نجيب محفوظ، ذلك الرجل الذي جعل العالم كلّه يهتمّ بالأدب العربي المعاصِر، ويسعى لترجمته. لمحفوظ مكانة كبيرة في الأوساط الأدبية والثقافية في العالم كله، وحاصل على جائزة نوبل، ليس لديَّ أيّ مانع من أن يلقي كلمته شخص آخر نيابة عنه، كما حدث في حفل تسليمه جائزة نوبل سنة 1988».
يقول عمرو موسى: الحقيقة وجدنا أن كلام رئيس المعرض -الذي كان حريصًا على أن تظهر المشاركة العربية في أبهى صورها- هو (الأصوب) من دون أن يقلّل ذلك من مكانة وقيمة عمر الشريف، وتمَّ الاتفاق على أن يلقيَ الكاتب محمد سلماوي الكلمةَ نيابةً عن الأستاذ نجيب محفوظ في افتتاح المعرض، كما سبق أن ألقى كلمة محفوظ في احتفالات نوبل (ص218).
بغضّ النظر عن تمثيل نجيب محفوظ للثقافة العربية الصحيحة، إلا أن القصدَ هو الفرق بين الثقافة والفن! فلا شكّ أن من أسباب فقدان البوصلة وضياع الجهود وهدر الطاقات في مجتمعنا، وفي كثير من المجتمعات العربية، هو تفريغ الجهات المعنية بنشاط معيّن أو بإنجاز مَهمَّة معيّنة من مهامها الأساسية، ومن واجباتها الرئيسة التي أسست لها وخلطها بمناشط أخرى، وإدخال أعمال لا تمتّ لها بصلة تؤثّر في سير أعمالها وتستهلك طاقتها ومواردها على حساب مهامّها الرئيسة والأساسية.
وممّا أتذكّره في هذا الخصوص أن مكتبة من المكتبات الحكومية في المملكة اهتمّت بمناشط لا تمتّ لمهامها الأساسية بصلة، بل مما أتذكّره أن تلك المناشط كانت هروبًا من القيام بالأعمال الأساسية للمكتبة، ومن ذلك أنها أقامت معارضَ عدّةً للفنون التشكيلية، مع نصيحة الناصحين لها بأن هذا ليس من مهامها، وأن هناك جهة مختصةً بالفنون التشكيلية ولديها معارض تقيمها؛ فلماذا لا تهتمّ هي بما أسست لأجله المكتبة؟!
ومن ذكريات كاتب هذه السطور مع معرض فرانكفورت الدولي للكتاب أننا حضرناه في 22/ 11/ 1433هـ، 8/ 10/ 2012م، لكن الملاحظ أن الحضور العربي، ومن ضمنه الحضور السعودي، لم يكن على مستوى التظاهرة أو الحدث، ولا شكَّ أن من الأسباب ما ذكرت سابقًا، فلم يستفد العرب من الأخطاء الماضية في استغلال مثل هذه التظاهرات. وقد ذكر عمرو موسى بعضها، حيث قال: »وصلنا لاختيار المفكرين والمثقفين والعلماء، الذين سيمثلون الثقافة العربية في المعرض. كان الطبيعي والمنطقي ألّا يمثّل العربَ إلّا الكتاب والمفكّرون والعلماء والأدباء والفنانون، ممنْ لهم وجود وحيثية، وممن قدّموا إنتاجًا معتبرًا، لكنّنا فوجئنا بأن بعض الدول قد أرسلت قوائم تصل إلى 200 فرد أغلبهم موظفون لا علاقة لهم لا بالعلم ولا بالثقافة ولا بالفكر» (ص217).
وإن كان من الواضح أن عمرو موسى كما يذكر عن نفسه كان حازمًا مع هذه الأخطاء، مما كان سببًا في إنجاح المشاركة العربية.
وأذكر أننا زرنا معهد العلوم الإسلامية في فرانكفورت، ومديره الدكتور فؤاد سزكين -رحمه الله-، فاستقبلنا استقبالًا حارًّا، وانتقدنا انتقادًا شديدًا كذلك من غير وجه حقّ، قائلاً: إنكم أيها العرب لم تخدموا الحضارة الإسلامية كما خدمتُها أنا، فأنا أقمت هذا المركز، وأنشأت المتحف الإسلامي في إسطنبول، وأنتم أيها العرب لم تقوموا بمثل ما قمت به. إن وجود بعض الأخطاء أو القصور لا يعني أن العرب، وخاصة المملكة العربية السعودية، لم يقوموا بواجبهم، فالمملكة قدّمت خدمات جليلة لخدمة الإسلام والمسلمين في شتّى المجالات وبكل ما أوتيت من إمكانيات سياسية واقتصادية ومادّية، ولولا خشية الإطالة على القارئ لذكرت طرفًا من ذلك، وإلا فالأمر واضح جدًّا، ومن ذلك للدكتور فؤاد سزكين أن معهد العلوم الإسلامية نفسه الذي هو مديره، وخدم العلوم الإسلامية من خلاله، قد ساهمت المملكة في تأسيسه. في زيارة للدكتور قاسم السامرائي في ليدن هولاندا عام 5/ 11/ 1440هـ ذكرت له ما حصل لنا مع سزكين، فقلت للدكتور قاسم: إنني زرت سزكين منذ سنوات في فرانكفورت، فوجدته حانقًا جدًّا علينا، وخاصةً على مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الأسبق!
فقال السبب هو: أن مدير الجامعة كان يشتري السلسلة التي كان يعملها، ثم توقّف عن الشراء. وللمعلومية أنتم في السعودية والإمارات وبعض دول الخليج من أكبر مؤسسي المعهد الذي يديره، فأول ما أسّسه عيّن أعضاء في مجلس الأمناء، من ضمنهم سعودي وإماراتي، وقد دفع هؤلاء الأموال لتأسيس المعهد؛ ولكن مع الأسف لما استغنى بدأ يتكلم!
ختامًا آمل من مؤسساتنا الرائدة وبالذات الثقافية أن تولي اهتمامًا أوسع وأكثر بما أسست لأجله.
** **
- خالد بن عبدالله الغليقة