الهادي التليلي
الشاعر الشعبي نجيب الذيبي أو عمر ابن أبي ربيعة الشعر العامي التونسي مثَّل تونس بالخارج والداخل ولم يدع مدينة أو قرية أو جزيرة من تونس إلا أسكنها صوته الشعري، هو قامة شعرية يصعب أن تتكرر في مشهد الشعر العامي التونسي لعب بالإيقاعات حتى أنك لو أعدت قراءة خط بعضها، وأنت تراها فصيحة تطاوعك لتكون كذلك في معظم الأحيان شاعرًا يعد معجماً للألفاظ والمصطلحات البدوية التي تطلع من جوار الشعانبي أعلى نقطة في خريطة البلاد لتتوزع عبر صوته الجهوري كما الأثير الذي ترسله منصات الاتصالات الساكنة في أعالي تلك الجبال.
نجيب الذيبي ابن محافظة القصرين الجميلة عاصمة المياه والعطشى في حمى النسيان والتجاهل، ولد في إحدى ضواحيها حاسي الفريد في سنة 1955 تلألأ نجمه مع الصحفي العملاق نجيب الخطاب -رحمه الله- فكان نجمة برامجه «سهرية على الفضائية» و»لو سمحتم» و»خمسة على خمسة»، كان نجم المهرجانات في زمن ساد فيه الاعتماد على نجوم الأغاني والكليبات، كان نجيب الذيبي الشاعر الوحيد الذي يستطيع أن يملأ مدارج مهرجان دون أن تكون فقرة الشعر لحظة هامشية في برنامج الحفل، وحتى عندما خاض مغامرة المسرح في عمل «حسونة الليلي» للمخرج صابر الحامي كان أميز الشعراء المشاركين.
حكايتي مع نجيب الذيبي كانت منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي وتحديدًا في مهرجان الزيتونة بالقلعة الكبرى حيث عهد آن ذاك للصديق الشاعر سمير بوقديدة بتنظيم فقرة شعرية فاختار بانوراما متنوعة بين الفصيح والعامي، ساعتها لم يكن من السهل أن تقرأ بعد نجيب أو قبله أولاً لأن الرجل يملأ المكان ويفتك بالألباب بصور شعرية غزلية أو فخرية غاية في الروعة لدرجة أنه من الصعب عليه أن يكتفي بقراءة واحدة، لأن الجمهور لا يمل بل يستمتع أكثر بشعر هذا الرجل، ساعتها نجيب قبل أن أعرفه شخصيًا كان دمنا أعرف ببعضه منا حيث أنه قريب جداً من قبيلة أولاد تليل ذات الأصول الأموية حتى أن كثيرًا من شعره الديني حول الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيه انزياحات كثيرة على أولاد تليل أحفاد سيدنا عثمان ابن عفان -رضي الله عنه- في هذا المهرجان ساعتها كان تعارفاً عابراً بل مجرد تبادل تحية وتعارف بين شاعر في مجال الشعر الفصيح الهادئ الذي لا يحتفل به الجمهور كثيراً ولا يرنو بدوره إلى كل جمهور وشاعر يحبه الجمهور ويطرب بدوره لجمهوره، وبقي التلاقي بيننا بين مهرجان وآخر إلى حين أسس الصديق الشاعر عبدالكريم الخالقي خيمة الشعر علي بن غذاهم بمنطقة جدليان التي تنتمي إلى محافظة القصرين نفسها فكان اللقاء بين جيل من مبدعي تلك المحافظة من صقور قائمة كالشاعرة فوزية علوي والقاص الميزوري البناني وغيرهم ونسور مهاجرة حتى قبل ولادتها، ولعلي كنت منهم وهو ما أطربني به المسؤول الثقافي المميز مصطفى علوي -رحمه الله- فكانت أول فرصة لي لاكتشاف المدينة الجبلية التي كنت أراها في قصائد هذا الشاعر كما كانت فرصة لما حدثنيه والدي -رحمه الله- عنها وما هو في الواقع.
عند دخولي رحلة العمل بوزارة الثقافة كمدير دار ثقافة كان نجيب بطبعه حاضرًا في كل المهرجانات الشعرية التي أنا طرف فيها لا لأنني أميزه عن غيره بل لأنه كان يميز دار الثقافة التي أديرها عن غيرها بحكم كثرة التزاماته وطلب المهرجانات سواء كانت محلية أو جهوية أو وطنية عليه. نجيب فعلاً كان حدثاً شعرياً سواء كان ذلك بمحافظة المهدية أو صفاقس أو جزيرة قرقنة، كان الجمهور وفياً له محتفياً به وحتى قبل ذلك في المركز الثقافي الجامعي بعاصمة الجنوب نظمت تحد في الشعر الشعبي شارك فيه هو مع نجيب عبدالمولى من محافظة المهدية وغيرهما، وأذكر أن الصديق عبدالمولى من فرط ما تغلب عليه الذيبي لحقت به في المدرج فارًا قال لي مداعبًا لم أهرب ولكن جنيته غلبت جنيتي.
ولعل المفاجأة التي أثلجت صدري هو أنه عندما قررت الزواج من هذه المدينة الجميلة من ابنة دمي وفي عاداتنا في تونس الزواج حفلان حفل تقيمه عائلة الزوجة لأهلها وعشيرتها وحفل نهائي يقيمه الزوج أينما هو، وفي حفل الزوجة بمدينة القصرين فوجئت بهذا الشاعر يصعد على المنصة ويهديني قصيدة شعبية على الملأ أعدها لي كهدية زواج وذكرني فيها وزوجتي، فكانت حركة أثرت فيَّ وأنا ما زلت أتهجى المكان فأدخلني هذا الرجل صلب الموضوع.
نجيب الذيبي هذا الفارس الذي خطفته منا كورونا مغتنمة فرصة إصابته بمرض في الكبد هو لم يرحل لأن الشعراء تخلدهم قصائدهم ولكن حلقت به ملائكة الشعر في سماء أخذت كثيرًا من الأحبة هذه الأيام، فعلى روحك السلام أيها الصديق وتقبلك الله مع الأبرار.