د.عبدالله بن موسى الطاير
إيران ليست واحدة كما تبدو من الخارج، وهي ليست شبحاً كما يصورها البعض، لكنها كما قال الرئيس باراك أوباما تعرف ما تريد وتعمل منذ 4 عقود لتحقيق ما تريد. إنها كبقية الكيانات السياسية تستند إلى عوامل قوة، ومراكز ضعف، وتحقق بعض أهدافها الاستراتيجية وتنكسر في أخرى لأنها ليست اللاعب الوحيد في محيطها، ولذلك فإنها تتعثر حينا، وتنسحب تارة، وفي مرات تنهزم شر هزيمة.
لقد تجرعت إيران مرارة الهزيمة على يد العراقيين في حرب الخليج الأولى، وكان مذاقها كالسم الزؤام على الخميني، لكنها عادت بعد 15 عامًا وتحديدًا مع الغزو الأمريكي عام 2003م لتبتلع معظم العراق. وهي تتعثر الآن في اليمن، وتصطدم في سوريا مع روسيا، صديقتها اللدود، ولا يمكن الجزم ببقائها في ذلك البلد العربي، إن بقي عربيًا. لكنها في مقابل تعثرها في مناطق تفتح لها بؤر في مناطق أخرى، ولعل حماس هي أحدث المنضوين تحت لواء فيلق بدر، أما الجهاد الإسلامي التي تأسست بالثورة الإيرانية في تأسيسها على يد الدكتور فتحي الشقاقي وخليفته رمضان شلح فقد كانت منذ البدء ربيبة الحرس الثوري ومدعومة منه.
ما صدر عن وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في تسريبه الشهير بخصوص تورط الحرس الثوري في العدوان على المقرات الدبلوماسية السعودية في إيران يصور حالة التباين والتنافس بين السطات في إيران، وقد تبع ذلك تصريح للرئيس الإيراني حسن روحاني توجه فيه إلى الله بأن «لا يغفر الله لمن لم يسمحوا لنا بإقامة علاقات طيبة مع بعض جيراننا، لقد قاموا بأشياء طفولية وغبية، هاجموا المراكز الدبلوماسية». عندما تصدر تصريحات من هذا القبيل من رئيس الدولة ومن رئيس الدبلوماسية الإيرانية، فإنها تكشف عن عمق الهوة بين المؤسسة التنفيذية الصورية وأجهزة ولاية الفقيه المتنفذة.
روحاني وظريف ابنا النظام، وهو الذي اختار أحدهما للدخول في انتخابات الرئاسة ثم أمره بتوزير ظريف للخارجية، لكنهما مع الممارسة إدركا أن هناك فصيلا آخر هو الذي يدير المشهد وعليهما أن يدفعا وزر مغامراته وأخطائه في الداخل بتحمل السخط المحلي على سياسات ولاية الفقيه، وفي الخارج بتجميل صورة النظام الديني العنصري الفاشي المتمثل في حكم الولي الفقيه. ومع الوقت بدأت تتشكل لديهما قناعات مغايرة عن تلك التي أهلتهما للمنصبين. ومع ذلك فإن مستوى الاختلاف لايزال في حدود ما يقبله ولي الفقيه على خامنئي ويسمح به بين الأجهزة التي يديرها.
ليس الكشف عن هذا التباين بين المؤسسات في إيران حديثا، بل هو قديم ومتجذر لأسباب فكرية وأخرى سياسية وثالثة تتعلق بتنازع الصلاحيات. ونتذكر في هذا لمقام تفخيخ حقائب 100 حاج إيراني عام 1986م، حيث كانت حماقة وعملاً إرهابيًا مرفوضًا من بعض القوى الإيرانية إذ كتب أحمد منتظري بعد تلك الفضيحة إلى الخميني رسالة نصت على أن «الحرس الثوري ارتكب خطأً غير مقبول في موسم الحج، واستغل حقائب 100 حاج إيراني بينهم رجال ونساء طاعنون في السن من دون علمهم، حيث أهدروا كرامة إيران والثورة الإيرانية في المملكة وفي موسم الحج».
الرسائل غير الراضية وغير المؤيدة ومنها التي أرسلها روحاني وظريف تؤكد سلامة الموقف السعودي المتشدد من إيران. لقد استنفذت المملكة كل السبل لإبرام صفقات تهدئة مع مسؤولين إيرانيين لم يكونوا قادرين على الوفاء بالتزاماتهم. وبذلك فإن التصريحات المقبلة من طهران تفسر عدم قدرة جيران إيران على التعايش مع جار تحكمه مؤسستان واحدة تبرم العهود والمواثيق وتبدي الرغبة في لم الشمل والحوار، وأخرى تبذل الوسع في تخريب ما يمكن الاتفاق عليه، وهي صاحبة اليد العليا في نكث العهود.
إيران سوف تتجه يوما، وقد لا يكون بعيدا، إلى توحد القرار فيها، وفي ظني إن فوز شخصية مثل إبراهيم رئيسي بالرئاسة قد يكون مصدر خطر استراتيجي على مؤسسة ولاية الفقيه، حيث تؤهله خلفيته الدينية، وبشاعة ماضية في خدمة ولي الفقيه لأن يكون الشخص المناسب لجمع الرئاسة وولاية الفقيه في شخصه. بالطبع لن يكون ذلك سهلاً، ولكنه يبقى نظرياً قابل للتحقق بما يشبه الانقلاب الذي ستسيل له الكثير من الدماء، ولكنه سيجد دعماً قوياً وترحيباً في الشارع الإيراني ومن بعض الملالي. إيران لن تبق على ما هي عليه، وسوف تتغير، ولكنها لن تكون في يوم من الأيام دولة صديقة وودودة، وإنما سيكون ممكناً إدارة الخلافات معها.