«الجزيرة» - محمد المرزوقي:
لسنا بصدد عرض.. ولا تحليل.. ولا قراءة.. بقدر ما نحل في (مقاربة حوارية)، مع سيرة معالي الدكتور فهّاد بن معتاد الحمد، الذي يضعنا بين يدي سفر معاصر يحمل على غلافه.. وبين دفتيه.. «خلاصة الأيام»، ما يعني أننا -بحق- أمام مهمة تأخذ بأبصارنا إلى مقدمات هذه الخلاصة.. وببصائرنا إلى الدروس المستفادة من خلاصة أيام.. وسنوات.. وعقود.. خطت لنا هذه الخلاصة، التي يحدثنا عن تداعيات مقدماتها، قائلاً: «قضيت في الخدمة العامة خمسة وأربعين عاماً، ولم يطرأ على بالي يوماً أن الطريق الذي سلكته بمحطاته، وتحولاته، وبما فيه من نجاحات وعثرات، سيكون موضوعاً لكتاب، يُنشر على الملأ! وسيرة تُقرأً، ولهذا السبب لم أكن مهتماً بتدوين مذكرات يومية أو شهرية، وحتى سنوية».
يقول دكتور فهاد -أيضاً- في سياق ما لم يكن في (متن) الأيام، الذي خرجت به، وأخرجته هذه السرية: «لم أكن أحتفظ بأرشيف منظم أو مصنف، للوثائق المتعلقة بمسيرتي، وبخاصة للسنوات التي سبقت عضويتي في مجلس الشورى، وفي مجلس الوزراء، التي كانت خاتمة الأعمال الحكومية»؛ ومن هذه الخاتمة تبدأ أم الروايات لرواية امتدت فصولها، إلى ثلاث عشرة ومئتي صفحة من القطع الكبير، متضمنة الفصول التالية: حكايات تسبق المسيرة، الجذور، ذاكرة المكان وزمن الصبا، بين كتّاب ومعهد، في مسارات العالم والعمل، ربع قرن في معقل الإدارة، عقد من الشورى، وأصبحت وزيراً، خلاصات من حوارات صحفية، مسارات تكمل المسيرة.. إلى جانب ما حفل به الكتاب من صور عبر محطات الأيام العلمية والعملية والوزارية، التي أصدرها (مركز عبدالرحمن السديري الثقافي)، في طبعة أولى 2021م.
وعلى عتبات الأيام.. كان لا بد لخلاصتها أن يلوح مداد ضوؤها في سماء د. الحمد، بدون مقدمات.. وعلى غير ذي موعد.. ودون سابق توقت.. ودونما استئذان، عندما أخذت الأسئلة تلوح في أفق هذه السيرة العلمية.. والعملية.. والإدارية.. والوزارية.. والشورية.. كل هذه الأيام بعقودها، كان مفتاحها السؤال.. الذي يصفه لنا صاحب هذه السيرة.. وصدّاح هذه المسيرة، دكتور فهاد، بقوله: «في يوم الجمعة التاسع من شهر ربيع الآخر، عام 1436هـ، بعد انتهاء عملي الحكومي، تساءل بعض الأصدقاء والزملاء عمّ أنوي عمله بعد التقاعد؟ ورأى آخرون في ذلك فرصة للتأمل، وتدوين تجربتي الخاصة مع الحياة، لما فيها من عبر قد تكون مفيدة خاصة لجيل الشاب، وعلى رأس هذا الفريق الصديق اللواء معاشي بن ذوقان العطية، فهو أول من هاتفني في مكالمة مطولة، يحثني فيها على (كتابة الذات)، لأنه يرى أن تجربتي مثالاً للإصرار وتحقيق النجاح، كما كان الصديق الكاتب دكتور إبراهيم بن عبدالرحمن التركي، التوجه التحفيزي ذاته، معتبراً أن حياتي متنوعة وثرية، وأنني أمتلك أسلوباً خاصاً في التعبير يكفل تقديمها للقارئ جذابة مشوقة».
إذن: نحن على مشارف ميلاد سيرة انهمرت مطالعها أسئلة.. وتساؤلات.. ليست من الأصدقاء والزملاء فحسب.. بل عبر عدة وسائل إعلام، استعرضت عبر فنون مختلفة شذرات من سيرة دكتور الحمد.. ومواقف من مسيرته العملية.. التي جاء منها -على سبيل المثال لا الحصر- ما نشره موقع متخصص في (قصص النجاح)، عبر شبكة الإنترنت، أطرافاً من قصة نجاح صحاب «الخلاصة»، التي استوقفت القراء قبل صاحب السرية، بأن في سيرته قصص النجاح.. وقصص الصمود.. وفصص جاءت في سياق موجهة الحياة.. وما يلفت الألباب إلى ما تحفل به تلك القصص أنها حافلة بالوجاهة.. صامدة في المواجهات.. في رسمها الصبر.. ووسمها المثابرة.. ورسومها نقوش من التفاني والبذل والإخلاص والعطاء.. ما يجعل من تلك القصص مناجم سرية لدروس مستفادة، وخلاصة حياة! ومع كل هذا.. ما زلنا على عتبات ملامح فكرة، لمّا تقتحم بعد صفوف أولويات هذه المرحلة التي لم تكن بعد تلك العقود المخلصة أن تدع خلاصة الأيام تمر دون أن تُلّخص في هذه السيرة، التي قال دكتور فهّاد، عن تداعيات بزوغ شمسها: «لأجل هذا وقع في نفس قدر من الاقتناع، بأن الأحوال والمواقف التي عايشتها بما فيها من محطات ومنجزات ومنغصات مناسبة لن تسوّد وتتاح لمن شاء النظر فيها، والاقتباس منها، وعندما كانت الطائرة تحلق على ارتفاع شاهق، فوق المحيط الأطلسي في رحلة طويلة من نيويورك إلى الرياض عام 1437هـ، أمسكت بالقلم لأضع أبرز ملامح مسيرة العمر، وأنا معلق بين السماء والأرض، وبعد الوصول إلى أرض الوطن، بدأت أسطر على الورق بعضاً من أحداث السنين، ولكني لم ألبث أن وضعت القلم، وطويت الصفحات، وتوقفت عن الكتابة!». مما يفاجئ به صاحب السيرة، قراءه، أن الهم يجدون على عتبات هذه السيرة قصصاً.. وروايات.. كل واحد منها تكاد تبدأ بعقدة.. أو بخلاصة موقف.. لكنه موقف مركّب وكأنه ينبئ القارئ عن نهاية لأهم حدث في سرد السيرة، إلا أنه مع ذلك يتحول من عقدة إلى استنارة لمحطة أخرى، ما ينبئ القارئ عن عصامية.. وصبر.. ومثابرة.. ليجد نفسه أمام متلازمات من القصص التي يأخذ بعضها بسرد بعض، لتأخذ كل قصة مكانها السيري من جانب.. والإبداعي من جانب آخر.. لما حفلت به هذه السيرة من سبك الأيام.. وسك الدروس.. التي كانت وجهة ذراع بوصلة قناعة دكتور الحمد في تسويدها بين يدي القراء، لتشرق فجراً في ثنايا هذه السيرة، التي حفلت -أيضاً- بصور تحكي أياماً.. وتقص محطات.. وشرفاتلى سيرة دكتور الحمد، وكأنه يصافح القراء من خلالها، مشيراً في كل صورة إلى خلاصة تقولها الصورة بلغتها المشهدية.
وهنا، نحن كذلك كغيرنا.. نسأل دكتور الحمد: لم التوقف بعد أن أشرعت نوافذ للسيرة وأنت محلق في الفضاء؟! ليجيبنا قائلاً: ربما يقف وراء هذا التردد والتوقف سببان، أولهما: رأيت حكايتي على أنها حكاية جيل بأكمله، وبخاصة أولئك الذين قُدّر لهم أن يولدوا ويعيشوا في مدن الأطراف، بعيداً عن حواضر الوطن ومدنه الكبرى، وثانيهما: يرجع لتخوفي وأنا على مشارف السبعين من أن الذاكرة لا تسعف بما يكفي لاسترجاع تفاصيل بعض الوقائع المهمة، بدقائقها التي لا يمكن أن يكتمل حصاد الأيام بدونها، وبتضافرهما آل المشروع إلى الهامش، دون إلغائه تماماً».
وفي هذه القصة الأخرى التي لا تزال تحكي لنا مرحلة ما قبل انفراج عقد القرار، بما تحمله أيضاً من دلالات مردها الكتابة بمداد (النبوغ)، الذي يتضح جلياً للقارئ، ويظهر في القصدية التي لا يزال ينشدها دكتور الحمد، بوضوح، وبدقة، وبفاعلية في الاتصال السيري، والتواصل مع كل قارئ على حدة، من خلال اتخاذ هذا القرار الذي مع انهمار إلحاحه.. وهطول سحائبه.. إلا أن دكتور فهّاد كان يتخذ من رؤيته الفلسفية إلى هذه السيرة، وخبراته المعرفية.. وقدراته الإدارية.. ما يمكن أن يعيده إلى الإمساك بالقلم.. وأخذ الورق.. والبدء في الكتابة من جديد!
ولما تحمله سيرة الدكتور فهّاد بن معتاد الحمد، عقود انتظم دورها في مسيرة ثرية، وسيرة مثرية، كما وصفها مجايلوه، التي أراد أن يأخذ من «خلاصة الأيام»، ما يستخلصه الأجيال في مشهدنا الوطني، من جيل إلى آخر، لما قامت عليه هذه السيرة من سعي حثيث إلى هدف من أهم الأهداف التي حققها دكتور الحمد، بمثابرته المعهودة.. وعطائه الجم.. ليقدم دروساً مستفادة من التجارب العلمية والعملية، بلغة مبسطة تخاطب مختلف شرائح جمهور القراء.. سهلة.. ماتعة.. تتجاوز سرد المحكيات.. وفن السرديات.. إلى «خطاب» لـ(نابغة) أحكمته التجارب في ميادين الإدارة.. ومضمار الإرادة.. فلم يكن ذات يوم يفكر في الالتفات إلى شيء من تفاصيل مسيرة عقود في ذلك المضمار.. ولو على سبيل التأمل.. لولا أن شهود الأنام.. أفلحوا في إقناعه بأن يلتفت بـ«قلمه»، إلى «خلاصة الأيام».