اللواء الركن م. سلامة بن هذال بن سعيدان
من المعروف أن مصطلح الاستعمار تم إطلاقه على التوسع السياسي والاقتصادي والثقافي الذي اتبعته الدول الأوروبية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما نتج عن هذا التوسع من التحكم بمصائر الأمم المغلوبة على أمرها والسيطرة على ثرواتها ومصادر رزقها والتدخل في معتقداتها الدينية والعبث بثقافتها وهويتها الوطنية.
وكلمة الاستعمار في سياقها الصحيح ومفهومها المريح تعني استصلاح الأرض وعمارتها، ورفع الظلم من فوقها كما ورد في القرآن الكريم: {هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..} هود الآية (61)، ولكن قوى الشر ذات المطامع غير الشرعية والممارسات الاستيطانية والقمعية استخدمت هذا المصطلح للتدليس والتلبيس وقلب الحقائق، فالحق المراد من هذه الكلمة أرادت به باطلاً تبرر به ما ترتكبه من جرائم وتقترفه من مآثم في حق الغير، عاكسة المفهوم ومستبدلة الخير بالشر والعدل بالظلم إذ جعلت من هذا المصطلح عنواناً للخراب والدمار وشاهداً على تسلط الإنسان على الإنسان، وقد قال الشاعر:
والعدل لو في الناس عدلٍ لم يكن
يوماً حليف سياسة استعمار
وبدلاً من التعمير والعمران وخدمة الإنسان حسب مفهوم هذه الكلمة أصبح الذي يتسمى بها من القوى الظالمة موصوفاً بالقتل والتهجير والتدمير واستباحة حقوق الغير عن طريق احتلال أراضي الدول الضعيفة واغتصاب مقدراتها، واستنزاف ثرواتها والاستيلاء على خيرات أوطانها تمهيداً لتمزيق كيانها وتهميش أديانها وتشويه ثقافتها وطمس هويتها.
والاستعمار في صورته القديمة يعني ممارسة الهيمنة من قبل دولة قوية على دولة ضعيفة، وما يترتب على هذه الهيمنة من بسط النفوذ على الدولة الضعيفة من أجل سلب ونهب خيراتها والتأثير في معتقداتها الدينية وأفكارها الثقافية وتركيبتها الاجتماعية، وغير ذلك من المظاهر الاستعمارية التي تتفق في أهدافها وتختلف في طرق تنفيذها، مع الأخذ في الحسبان أن الاستعمار بأنواعه السافرة والمستترة بقدر ما يعد إرثاً قديماً بقدر ما يتجدد في صور متنوعة وله صيغ متعددة، يمكن على ضوئها التمييز بين الاستعمار القديم والحديث.
وثمة الكثير من الأهداف التي تعمل الدولة الاستعمارية على تحقيقها على حساب الدولة التي تجثم على صدرها وتصادر قرارها، وتستولي على خيرها، وتغزو فكرها كالأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية والديموغرافية وغيرها من الأهداف التي كلما استطاع المستعمر بلوغها والتوسع فيها، تمكن من تحسين مركزه وتوسيع دائرة نفوذه على المستوى الدولي.
والاستعمار وما يتضمنه من حالات الاحتلال والاستيطان والانتداب وما في حكمها من الحالات التي تمليها الدولة الغالبة على الدولة المغلوبة، حيث يفرض تطور الموقف على هذه الحالات التحول من مرحلة فرض الإرادة وانتهاك السيادة وسلب ونهب الثروات إلى مرحلة العمل الاستعماري الذي يسعى إلى تدمير الموروث الثقافي وتغيير المعتقد الديني عن طريق ما يعرف بالاستعمار الفكري والثقافي الذي يعد من أخطر أشكال الاستعمار، لكونه يستهدف تهميش اللغة والدين، بشكل يمس البنية التحتية لفكر الأمة وثقافتها، وبالتالي العبث بموروثها التاريخي والحضاري والإساءة إلى مرجعياتها الانتمائية المتمثلة في الدين والثقافة والوطن والقومية.
ولم يرحل الاستعمار القديم إلا بعد أن مهد الطريق لما يعرف بالاستعمار الحديث، حيث رتب الأوضاع في المنطقة التي رحل عنها بما يتلاءم مع أهدافه ومشروعاته المستقبلية، تاركاً خلفه من المنغصات الاجتماعية والتقسيمات الفئوية والمشكلات الحدودية مع الجوار ما هو كفيل بإثارة الفتن الداخلية وتغذية النزاعات الطائفية والعرقية من أجل التأسيس لنمط من أنماط الاستعمار المقنع في المنطقة التي غادرها، ويعني ذلك أن الجلاء لم يتم إلا بعد أن أسس المستعمِر نفوذاً فكرياً وثقافياً يربطه بالدول التي جلا عنها، وهو ما يطلق عليه اليوم مصطلح الاستعمار الحديث أو الجديد.
وتأسيساً على ذلك فإن الاستعمار في مفهومه الحديث يتمثل في هيمنة المستعمِر على المستعمَر بدون التدخل العسكري، وذلك من خلال الهيمنة الثقافية والاقتصادية والتكنولوجية ونحوها من الممارسات ذات الطابع السياسي والاستخباراتي التي يمارسها الخبراء والمستشارون خارج نطاق ما هو مطلوب منه عمله على نحو تتطور معه هذه الهيمنة إلى المستوى الذي تكتمل فيه أركان الاستعمار المقنع الذي يتجاوز في خطورته الاستعمار المكشوف خاصة إذا ما وجد هذا الاستعمار المستتر من يوفر له التسهيلات، ويقدم له الخدمات من المحسوبين على الشعب المغلوب على أمره.
ونظراً لأن الاستعمار الحديث ما هو إلا تطوير للاستعمار القديم الذي صنعه ليكون بديلاً عنه بوسائل متطورة وأساليب متحضرة من وجهة نظر المستعمر، فإن هذا البديل شأنه شأن الأصيل من حيث قابلية التجديد والتطوير، اعتماداً على قوة الدولة الاستعمارية وقدرتها على تطوير مشروعها الاستعماري، وفقاً للقاعدة التي مفادها أن ما لا يتطور يندثر، الأمر الذي حرصت معه قوى الاستعمار على شرعنت استعمارها غير المشروع واعتبار الباطل حقاً يستحق المحافظة عليه من الاندثار دون أن تحسب حساباً للضحية وما تتعرض له من الظلم والاضطهاد وأشكال الخراب والدمار من جراء ما تعانيه من استعمار.
ومن هذا المنطلق فإن المستعمِر الأوروبي أنهى استعماره القديم في المنطقة العربية بإيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين متخذة منه القوى التي تحتضن اليهود منطلقاً تنطلق منه إلى ممارسة الاستعمار في شكله الجديد، حيث إن الدولة اليهودية المستوطنة لهذا الوطن تمثل بالنسبة للدول الاستعمارية أكبر قاعدة في الوطن العربي، علاوة على أن وجود موقع هذه الدولة في قلب هذا الوطن يمثل لهذا المستعمر أداة لتجزئة المنطقة العربية وفصل مغربها عن مشرقها، توطئة لتفتيت الأمة العربية وتدمير كيانها وتهجيرها عن أوطانها وإبطال مفعول انتماءاتها الدينية والثقافية والوطنية مع تهيئة الظروف المناسبة لتتحول الدولة العبرية من دور الوكيل الاستعماري في المنطقة العربية إلى دور الشريك في جميع المجالات العسكرية والاقتصادية والسياسية.