عبدالرحمن الحبيب
اعتاد المهتمون بالبيئة على إلقاء اللوم على نمط الزراعة التكنولوجية الحديثة ذات الحجم الضخم، باعتبارها أكبر مدمر للتوازن البيئي والتنوع الحيوي بسبب تحويل الغابات والمراعي الطبيعية والنظم البيئية الأخرى إلى حقول زراعية يسيطر عليها محصول واحد، فضلاً عن تلويث البيئة بالكيماويات، على عكس نمط المزارع الريفية التقليدية والصغيرة التي يتنوع بها الإنتاج من محاصيل نباتية متعددة وحيوانات مختلفة فهي مزارع مثالية لصحة وتوازن البيئة.. مؤكدين أن النمط الصناعي للزراعة برمته يحتاج إلى تغيير.. لكن ثمة من لديه وجهة نظر مناقضة تماماً، فماذا يقول الطرفان؟
تيد نوردهاوس مؤسس معهد بريكثرو للبيئة بكاليفورنيا، والباحث دان ريجتو مدير الأغذية والزراعة بالمعهد، كتبا مقالاً طويلاً قبل نحو شهرين (مجلة فورين بولسي) يجادلان بأن نظام المزارع الكبرى (الزراعة الصناعية) هو الأفضل، فهو أخرج ملايين الأشخاص بأمريكا من براثن الفقر وهو أيضًا أفضل للبيئة.. وهذا ينطبق على بقية دول العالم غير الفقيرة..
يذكر المقال أنه بالخيال البيئي المعاصر، تعتبر الزراعة التكنولوجية الحديثة أمرًا سيئًا للبيئة، لأنها تلوث الأرض والجو؛ لكن في الواقع، فإن رطلًا من الحبوب أو لحوم البقر يحل محل رطل كان سينتج بالمزيد من الأراضي والانبعاثات في الزراعة التقليدية.. فالمزارع الصغيرة تمثل ما يقرب من نصف المزارع الأمريكية لكنها تنتج أقل من 10 % من إجمالي الإنتاج، بينما تمثِّل المزارع الأكبر حوالي 50 % من الإنتاج، وتعتمد على أنظمة إنتاج مبسطة ووفورات بالحجم لإطعام مئات الملايين من البشر..
كانت الزراعة هي المهنة الرئيسية لمعظم الأمريكيين، بأكثر من 70 % يعملون بالزراعة عام 1800، وانخفض إلى حوالي 40 % عام 1900.. اليوم هذا الرقم أقل من 2 %. هذا التطور بفضل الابتكارات التي مكَّنت المزارعين من إنتاج محاصيل أكبر بعدد عمالة أقل وإنتاجية أعلى من الأرض. كما أن الهجرة الواسعة النطاق للعمالة من المزارع إلى المدن للحصول على أجور أعلى، أدت إلى زيادة استثمار المزارعين في التقنيات الموفرة للعمالة في دورة فعَّالة من التمدن والتكثيف الزراعي والنمو الاقتصادي الذي هو السمة المميزة لجميع المجتمعات الغنية..
يؤكد المقال أنه «لم تنجح أي دولة على الإطلاق في إخراج معظم سكانها من براثن الفقر دون أن يترك معظم هؤلاء السكان العمل في الزراعة.».. وأنه لا يمكن فصل النقاشات حول التأثيرات الاجتماعية والبيئية للنظام الغذائي الأمريكي عن الحقيقة الأساسية التي مفادها أنه بالمجتمع الصناعي الحديث سيعيش معظم الناس في المدن والضواحي ولن يعملوا في الزراعة، فلا بد من إنتاج معظم الطعام في مزارع كبرى، مع القليل من العمالة..
ويرى الكاتبان أن الشركات الكبيرة المتعددة الجنسية أكثر استجابة للمسؤولية الاجتماعية لأنها أسهل في الاستهداف والضغط والتنظيم من الصناعات اللا مركزية.. على سبيل المثال، هذه الشركات أبدت استعدادها لتقديم التزامات عدم إزالة الغابات بأماكن مثل البرازيل. لهذه الأسباب فإن النظام الغذائي الأكبر يؤدي إلى نتائج اجتماعية وبيئية أفضل، وهو على كل حال حتمي للحداثة العالمية، وليست مؤامرة من قبل الرأسماليين والشركات لتسميم الناس أو الأرض..
هذا الطرح لن يمضي دون مواجهة.. ماثيو آر ساندرسون، أستاذ الاجتماع (جامعة ولاية كانساس) وستان كوكس الباحث البيئي (معهد الأرض، كانساس) اعترضا على هذا المقال وكتبا مقالاً في نفس المجلة بأن نظام المزارع الكبرى يعمل على تبسيط النظم البيئية مما يجعلنا أكثر عرضة للتهديدات ويؤدي إلى انهيار بيئي.. خذ مثلاً الزراعة الحيوانية فهي تمثِّل 14.5 % من إجمالي انبعاثات الغازات البشرية المنشأ سنويًا، وهي مصدر 60 % من أكسيد النيتروجين و50 % من انبعاثات الميثان.. ومثال آخر البرازيل، موطن غابات الأمازون، التي تشكل 40 % من الغابات المطيرة و25 % من جميع التنوع البيولوجي على الأرض، ازداد فيها فقدان الغابات وانقراض الأنواع فقط مع زيادة الزراعة الصناعية في البرازيل، إذ يحرق المزارعون كميات غير مسبوقة من الغابات لتوسيع عملياتهم الزراعية سعياً وراء نموذج صناعي. فالجهود المبذولة لتوسيع نطاق الزراعة الصناعية تقوِّض قدرة الكوكب على دعم الحياة والتنوع الأحيائي..
صار تنفس الهواء أكثر صعوبة في البرازيل، كما أصبح من الصعب العثور على مياه عذبة نظيفة في الهند، حيث يتزايد التلوث بالمبيدات نتيجة تسارع وتيرة التصنيع الزراعي، فمع تحول الزراعة إلى الصناعة ارتفع استخدام المبيدات الحشرية والأسمدة. إذا كانت الأحداث في البرازيل والهند تبدو مألوفة لقراء للأمريكان، فذلك بسبب وجود قصص مماثلة بأمريكا، حيث تجعل الزراعة الصناعية مناظر طبيعية بأكملها غير صالحة للسكن سواء بتدمير التربة أو تلويث الأنهر والهواء، حسب المقال.
ويؤكد الكاتبان أن هذه النتائج المأساوية ليست حتمية ولا طبيعية، بل هي نتيجة تقنيات الزراعة الصناعية لتوسيع الزراعة، ففي أمريكا عزَّزت السياسة الفيدرالية منذ السبعينيات بشكل صريح توسيع نطاق الزراعة الصناعية من خلال إلزامية «كن كبيرًا أو اخرج».. هذا النمط الصناعي للزراعة يعمل على تبسيط النظم البيئية مما يجعلنا أكثر عرضة للتهديدات البيئية المدمرة، ولا بد من تعديل هذه السياسات لإخراجنا من حافة الهاوية..
وللجدل بين الطرفين بقية..