عبدالمجيد بن محمد العُمري
فقدت البلاد في يوم الخميس 29/ 10/ 1442هـ شيخاً جليلاً ورجلاً فاضلاً من رجالات الدولة الذين كان له منزلة كبيرة لدى ملوك البلاد منذ عهد الملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله -رحمهم الله-، ثم الملك سلمان -حفظه الله-، هذه المنزلة التي لا يشغلها سوى الرجال الأفذاذ، إنه معالي الشيخ ناصر بن عبدالعزيز الشثري الذي شيع عصر الجمعة في مقبرة العود، بحضور آلاف المشيعين، رغم الظروف الصحية العامة، وكما حظي بثقة ولاة الأمر فقد حظي في آخر حياته بالوفاء والتقدير من خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي عهده الأمين -حفظهما الله- اللذين زاراه مراراً في منزله للاطمئنان على صحته.
وأقدم العذر ابتداءً بأنه لا يمكن في هذه العجالة الإحاطة بكل مناقب الفقيد الغالي ولا يتسع المقام لبسط السيرة الكاملة له، فسيرته الذاتية محمودة، وتاريخ حياته حافل بالمكرمات والأعمال الجليلة من الباقيات الصالحات، فقد كان المرحوم تقياً نقياً، طاهر القلب، زكي النفس، سليم السريرة، لين الجانب، متواضعاً يحب الناس ويحبونه، وكان مجموعة من القيم العربية الأصيلة، كيف لا وقد نشأ في بيت علم وفضل، فألف مجالس العلماء في منزل والده الذين كانوا يترددون ويفدون عليه من كل صوب وبلد، وتشدهم به أواصر القربى أو تربطهم به علاقات العلم والمودة والإخاء، فتوافرت له أسباب العلم والمعرفة، فأخذ يستمع إليهم، ويعي من أقوالهم وأحاديثهم العلوم النافعة، ولذا فلا غرابة أن يسلك هذا المنهج القويم ويحتذي حذو التقاة الصالحين، وكان طبيعياً أن يسير في ركب أبيه، ويقتبس ذلك من بيئته السامقة الراقية، ومن بيت العلم والشرف فوالده الشيخ عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز الشثري عام 1305- 1387هـ -رحمه الله-.
وكان والده ذا جاه ومنزلة عند عامة الناس ولدى ولاة الأمر، لما عرف به من البر والتقوى، ورجاحة العقل، والكرم المنقطع النظير، والبذل والسخاء الذي يعرفه عنه الخاص والعام، والإنفاق على المعوزين وعلى طلبة العلم وذوي الرحم، ولا يبالي بما بذل في ذلك لحبه للتآلف وصفاء القلوب، وقد أصبح لهذه الخصال ونحوها محبوباً في النفوس، له في قلوب الناس من المودة والشفقة ما لم يُرَ لغيره حتى كناه الناس قديماً (بأبي حبيب)، رغم أنه لم يسم أحد أبنائه بهذا الاسم.
ومن توفيق الله -عز وجل- اتصال الشيخ ناصر بوالده وشيخه في الدروس والمجالس وفي الحضر والسفر باستمرار، وكانت له من ارتباطه وامتزاجه به منزلة مزدوجة من البنوة والصحبة، أنتجت ثمارها المباركة الزكية فيما كان عليه الفقيد من كمال العلم والخلق وتأثيرهما الملحوظ على الناحيتين العلمية والسلوكية، فتوافر لديه غزارة العلم واتساع الثقافة وتوسع المدارك وسداد الرأي، يقول الشاعر:
الابن ينشأ على ما كان والدهُ
إن العروق عليها ينبت الشجرُ
لقد كان للشيخ ناصر الشثري مواقف مشرفة مشهودة، تذكر فتشكر في قضاء حوائج الناس والتعاون على البر والتقوى وإصلاح ذات البين، وكان معقد الأمل، وقطب الرحى، ومقصد ذوي الحاجات وطالبي الشفاعات الحسنة، هذه الأعمال الجليلة وغيرها إن دلت على شيء إنما تدل على طيب المعدن وسمو في الفضائل والقيم الأصيلة وسداد في الرأي.
كان الشيخ الشثري محيطاً بعلوم الشريعة ومقاصدها وأحكامها، وقد رزقه الله عقلاً راجحاً وفهماً واسعاً وحكمة بينة، وكان واسع الاطلاع على السنة النبوية، وأقضية الصحابة وآراء العلماء، عارفاً بأحوال المجتمع، وتاريخ الإسلام والمسلمين وبأحوال العصر وشبهات أهل الملل والنحل، فهو ممن أوتي الحكمة ورزق الخير الكثير.
ومن المواقف التي لا تنسى للشيخ الشثري -رحمه الله- تصديه لمعمر القذافي رئيس ليبيا والرد عليه في عقر داره، فحين تم دعوة الملك خالد -رحمه الله- لحضور الذكرى العاشرة لثورة الفاتح، كان الشيخ ضمن الوفد الرسمي مع الملك في صيف 1980م/ 1400هـ، وخلال أيام الزيارة اصطحب القذافي الوفد السعودي في رحلة إلى الجبل الأخضر في حافلة خاصة وامتدت الرحلة لعدة ساعات، تخللها النقاش بين المضيف غير اللطيف والوفد الزائر، وكعادة القذافي في عرض أفكاره ونظرياته البائدة والساذجة، ومنها ما ذكره عن السنة النبوية، والملك خالد -رحمه الله- سبق أن سمعها عنه، ولكنه الآن يستمع لها منه شخصياً، وكان يتوقع أن يقدم تكذيباً لما بلغه من إنكاره لحجية السنة، ولكنه لم ينكر بل أراد أن يتذاكى ويتملص!! وقال: (إنني لا أنكر السنة كلها، أنا آخذ بالسنة العملية، لا السنة القولية، وأنا أعترف بمسائل الصلاة والصيام والحج والزكاة.. أما الأحاديث المنسوبة للرسول ملفقة ومزيفة وكتبت بعد وفاته بمدة طويلة، ولا يمكن الاعتماد عليها!!! وأمامنا القرآن، أنا لا أعترف إلا بالقرآن، لا أناقش إلا بما جاء في القرآن).
وهنا انبرى الشيخ ناصر الشثري، وكان إماماً للملك ومستشاره في الشئون الشرعية، وألجمه بالحق وتصدى لخرافاته ورد عليه رداً شرعياً متزناً من الكتاب والسنة، ثم تمادى القذافي مرة أخرى فقال: (إن الإسلام هو دين العرب وحدهم!! محمد كان عَرَبِيَّا، والقرآن نزل بلسان عربي للعرب.. الإسلام لا يصلح إلا للعرب، والعرب لا يصلحون إلا للإسلام؛ وبالتالي يجب أن يكون العرب جميعاً مسلمين، أما غير العرب فلا ينبغي أن يكونوا مسلمين، وإن أي مسلم غير عربي هو شعوبي مخادع لم يدخل الإسلام إلاَّ للكيد له)..
فتصدى الشيخ ناصر الشثري مرة أخرى لخرافاته ورد عليه بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية، مبيناً له أن الإسلام ليس للعرب بل للعالم أجمع، وقد اشتد غي القذافي ومكابرته ورفض أن يغير موقفه.
وكأن القذافي أراد تلطيف الجو فانتقل بالحديث بعد ذلك إلى (تعدد الزوجات) فقال القذافي إن تعدد الزوجات مبدأ لا يعرفه الإسلام، ولا يعرفه القرآن. وطلب من أعضاء الوفد السعودي قراءة النص القرآني {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءْ}، وقال: (إن هذه الرخصة مقصورة على الفتيات اليتيمات اللاتي يتربين في حضانة رجل يود حمايتهن عن طريق الزواج بهن.. فيما عَدَا ذلك لا يجوز التعدد مطلقاً).. فرد الشيخ ناصر الشثري كعادته فرية القذافي وجرأته وعبثه، وكان الملك خالد يتابع النقاش وهو يبتسم من حجية الشيخ وبهتان القذافي، فالشيخ لم تأخذه في الحق لومة لائم.
وكانت خاتمة الحديث حول التقويم الإسلامي الذي غيره فجعله يبدأ بوفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، وكان متمسكاً برأيه وظلاله، وقال: (من الذي أَرَّخَ بالهجرة؟ هل هناك نص في القرآن؟ هل أمر به الرسول؟ إنه اجتهاد من عمر بن الخطاب. وعمر بن الخطاب حاكم مسلم وأنا حاكم مسلم، وله اجتهاده ولي اجتهادي)!!
ليختم الملك خالد الحديث بعد أن يئس من جهله وحماقته فقال له: هل أنت مثل عمر بن الخطاب؟!
وقد دون مجريات هذا المناقشات معالي الدكتور غازي القصيبي -رحمه الله- في كتابه الشيق الوزير المرافق.
خلال زياراتي المتعددة لمعالي الشيخ سعد بن ناصر الشثري مع العديد من الضيوف من خارج المملكة كانت معظم اللقاءات تتم في منزل والده، ولقد شرفت بلقاء الفقيد في منزله مرات عديدة وأنست بالجلوس معه، وأول ما يطالعك من الشيخ أخلاقه الفاضلة، فكان -رحمه الله- كريم الخلق وطيب النفس فهو موطأ الأكناف كريم المعشر، ورأيت في الراحل الجليس الحبيب، والشيخ الموجه، والمربي الفاضل، والفقيه البصير، والشاعر الجزل.
تجلس إليه فيسأل عن أحوالك وأهلك وأسرتك وقد يقص عليك من أخبارهم وسيرهم ويثني على ما يعرفه عنهم، ولا يخلو مجلسه من فوائد علمية وتاريخية واجتماعية، ولا عجب بعد ذلك أن رزق الشيخ الفاضل في مجتمعه ومن عامة الناس وحتى علية القوم المحبة والتقدير والتعلق به من كل من اتصل به أو لقيه، وكل من عرفه وخبره ليس في بلادنا فقط بل حتى في الخارج.
لقد كان شاكراً لله -عز وجل- على السراء في غناه وقوته، وكان أكثر من ذلك صابراً في عجزه وشيخوخته على مرضه وابتلائه.
ولئن مات المرحوم وفني جسمه فإن أعماله الباقية وذكره الحسن ما زال خالداً، كما أن ذريته الصالحة ترتسم خطاه فهم أبناء كرام بررة، وسيحافظون على السمعة النفيسة العطرة، والتاريخ المشرف الحافل، ويتابعون مسيرة الأسرة الصالحة الفاضلة، وذكرياتها الخالدة، وكما قال الشاعر زهير ابن أبي سلمى:
و ما بك من خير أتوه فإنّما
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطّيّ إلّا وشيجه
وتغرس إلّا في منابتها النّخل
وبعد فإني لم أستطع في هذه المساحة أن أذكر إلا القليل اليسير من مسيرة الشيخ وآثاره، لأني أولاً لا أحيط بها كاملاً، وثانياً إن ما سمعنا وعلمنا عنه وشاهدناه يحتاج إلى مؤلف خاص بل مؤلفات تدون فيه أعماله ومواقفه ومآثره، وهذا ما أحسبه أن يكون في قابل الأيام، فهذا الراحل الفاضل ناصر بن عبدالعزيز الشثري، لن يُنسى له الفضل والجميل الذي أسر فيه القلوب بعلمه وخلقه وكرمه وإنسانيته، وما وقف به حياته في خدمة الدين ونصرته والوطن وقادته، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنته، وجعل ما قدمه في ميزان حسناته، وألهمنا وآله الصبر والسلوان.