حمّاد بن حامد السالمي
* نواصل الكلام الذي بدأناه في مقالنا السابق لنؤكِّد من جديد؛ أن شعب لبنان العربي الأصيل؛ ليس كله (شربل وهبة وحسن نصر اللات)، ولا من تشربل وتوهب وتتلت معهما من المتفرنجين والمتأرننين، الذين باعوا ضمائرهم لأسيادهم في طهران، فضاعوا تبعًا لذلك، ثم ضيعوا لبنان واللبنانيين، وسلموا مواطنيهم لمن استعبدهم لمصالحه وسياساته في المنطقة.
* نقف اليوم؛ مع قليل مما ورد عن اللبناني الكبير الشهير: (أمين الريحاني 1876م 1940م)، ابن بلدة الفريكة من قرى منطقة المتن الشمالي. الأديب المفكر، والرحالة المؤرّخ. ذكر أمين الريحاني ما كان يُقال عن الملك عبدالعزيز في الحديدة وعدن، وفي دار الوكالة البريطانية في بغداد قال: (ابن سعود رجل كبير، هو نابغة بلاده. هو السياسي المحنك والقائد الباسل، والحاكم العادل، هو أكبر أمراء العرب اليوم وأقواهم. رجل عظيم. رجل نجد. هو ابن البادية التي ينبغ فيها من حين إلى حين كبار الرجال، فيظهرون فجأة، ويسودون الناس بالعقل قبل أن يسودوهم بالسيف).
* وحينما تلقى الريحاني كتابًا من الملك عبدالعزيز قال: (إن الرجل لا يتكلّف اللطف والتواضع لأنهما من خلاله الفطرية). وبعد لقائه بالملك عبد العزيز في العقير قال: (وكانت المشاهدة الأولى على الرمل، تحت السماء والنجوم، وفي نور النيران المتقدة حولنا، ألفيته رجلاً لا يمتاز ظاهراً بغير طوله، وكان يلبس ثوباً أبيض، وعباءة بنية، وعقالًا مقصباً في كوفية من القطن حمراء, أين أبهة الملوك وفخفخة السلطان..؟ إنك لا تجدها في نجد وسلطانها، وإن أول ما يملكك منه ابتسامة هي مغناطيس القلوب).
* وبعد مقابلة الريحاني أمراء العرب؛ ومقابلته الأولى للملك عبد العزيز قال:
(ها قد قابلت أمراء العرب كلهم؛ فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل, لست مجازفًا أو مبالغاً فيما أقول: فهو حقاً كبير: كبير في مصافحته، وفي ابتسامته، وفي كلامه، وفي نظراته، وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحداً من الناس، بل يفشي سره، وما أشرف السر، سر رجل يعرف نفسه، ويثق بعد الله بنفسه. حنا العرب. إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولا شك بالمكارم لا بالألقاب، جئت ابن سعود والقلب فارغ من البغض ومن الحب كما قلت له، فلا رأي الإنكليز، ولا رأي الحجاز، ولا الثناء، ولا المطاعن أثرت فيّ. وها قد ملأ القلب، ملأه حباً في أول جلسة جلسناها، على أن الحب قد لا يكون مقروناً بالإعجاب. إني سعيد لأني زرت ابن سعود؛ بعد أن زرتهم كلهم. هو حقاً مسك الختام. مهما قيل في ابن سعود؛ فهو رجل قبل كل شيء. رجل كبير القلب والنفس والوجدان. عربي.. تجسمت فيه فضائل العرب إلى حد يندر في غير الملوك الذين زينت آثارهم شعرنا وتاريخنا، وتجسمت فيه كذلك آفاتهم. رجل صافي الذهن والوجدان. خلو من الادعاء والتصلف. خلو من التظاهر الكاذب).
* أما عن عدل الملك عبد العزيز- ملك البدو يا شربل وهبة وأشباهك- يقول الريحاني: (عدل ابن سعود؛ كلمة تسمعها في البحر وفي البر، وفي طريقك إلى نجد قبل أن تصل إليها. كلمة يرددها الركبان في كل مكان يحكمه سلطان نجد، من الأحساء إلى تهامة، ومن الربع الخالي إلى الجوف- وما عدل ابن سعود غير الشرع.. غير عدل النبي- إذا كان العدل أساس الملك؛ فالأمن أول مظهر من مظاهر العدل؛ وفي نجد اليوم من الأمن؛ ما لا تجده في بلادنا أو في بلاد متمدنة، وفي القوافل التي تسير أربعين يوماً في ملك ابن سعود من طرف إلى طرف؛ من القطيف مثلاًً إلى أبها، ومن وادي الدواسر إلى وادي السرحان؛ دون أن يتعرض لها أحد من البدو أو الحضر؛ دون أن تُسأل من أين والى أين). ثم يضيف: (ترى نجد اليوم عزيزة بعبد العزيز، تستمتع بأمن منقطع النظير في كل البلاد العربية، وبعدل كبير شامل، يحمل السيف والقسطاس، وبخير فوق ذلك؛ لا تنفد موارده).
* وعن كرم الملك عبدالعزيز يذكر الريحاني: (لقد شاهدت معرض العطاء في الرياض، بل كنت أشاهد كل يوم مدة إقامتي هناك، وأعجب جداً لكرم هذا الرجل، بل إيمانه وثقته بالله، مصدر الخير غير المتناهي، وولي النعم التي لا تزول, وإلا فكيف يؤمل بدوام حال تمكنه من العطاء في بلاد بلا ثروة لها ثابتة دائمة)..؟ ويستطرد: (كلهم يؤمون الرياض لعلمهم أن فيها رجلاً من كبار العرب اليوم، بل أكبرهم، يؤمونها.. إما حباً وإجلالاً، وإما خوفاً واستعطافًا، وإما ابتغاء مساعدة مادية أو سياسية، وقلما يعود أحد من عاصمة نجد خائب الأمل. وفي الرياض جيش يتراوح عدده بين الألف والألفين، يأكلون في القصر مرتين كل يوم الظهر والمساء، وفيها أيضًا مئة أسرة أو ما يزيد. رأيت العربان والإخوان ينتظرون في الرواق، وشلهوب جالس وراء منضدته يعد الروبيات، وأعوانه في المخازن حوله يوزعون الثياب، وكنت أرى كل يوم قبل غروب الشمس- ليس في ساحة القصر، بل وراءه عند باب المطبخ- جمعاً آخر محتشداً هناك. جمعاً كبيراً من البدو المخيمين خارج المدينة. كلهم جاؤوا في هذه الساعة وبأيديهم أوان من الخشب أو النحاس أو الفخار؛ ينتظرون شيئاً من الطبخ. هذا كرم من لا يخشى الفقر، رغم قلة ذات اليد). هذا قليل من كثير مما ورد عن الريحاني (فيلسوف الفريكة)، وخاصة في كتابه الشهير: (ملوك العرب).
* شكرًا لأحرار لبنان من تقدم منهم ومن تأخر، ولا عزاء للعملاء والأجراء، ولنا لقاء قادم مع إضاءات جديدة حول ملك ومملكة البدو الحرة الأبية.