تعالت في أيامنا هذه حدّة الشعوبية عبر أبواق جديدة، بعضها عربية وبعضها مستعربة، وبعضها سنة وبعضها الآخر شيعة، تنطلق من أجندة وأهداف واحدة، لا فرق في ذلك بينهم سواء أكانوا أفرادًا أم قادة أم ساسة أم منظماتٍ أم دولًا. منهم من يعمل لحساب دول في المنطقة ومنهم من يعمل لحساب نفسه قافزًا من قناة لأخرى متكسبًا ببذاءة ونذالة لا حدّ لهما، إنهم فئة سكنتهم الأحقاد واستولت عليهم شهوة الأموال القذرة التي تنفقها عليهم قنوات فضائية من قنوات النخاسة السياسية، فهنالك حملة إعلامية تقاد ضدنا في وسائل متنوعة تروّج أخبارًا كاذبة عن بلادنا وقادتها، كما تُطلق أوصافاً وشتائمَ يندى لها جبين الشرفاء، وكل ذلك بنسق شبه يومي.
لكن مستوى الانحطاط والبذاءة والأسلوب المسف يقابل من قبلنا بصمت ووقار واستعلاء عن الصغائر! ومع هذا لا تستحي بعض تلك الأبواق من التسول لدن مديري بعض القنوات المحسوبة على بلادنا لطلب وظيفة فيها، نظير مبلغ يسيل له لعاب ذلك البوق.
أعجبتني عبارة أرسلتها لي إحدى الصديقات تقول: إنّ «الطائر الوحيد الذي يستطيع أن يعلو فوق النسر هو الغراب، يعلو فوق ظهره وينقر رقبته لإزعاجه، لكنّ النسر لا يأبه له ولا يهاجمه، فقط يحلّق عاليًا في السماء حتى يصعب على الغراب التنفس لنقص الأوكسجين فيسقط، لذا لا تُضِعْ وقتك في مصارعة الغربان، حلّق عاليًا وهم سيتساقطون»! لشدَّ ما تنطبق هذه العبارة على الغربان الذين يتكسبون بمهاجمة بلادنا وقادتها لإزعاجهم وإثارة اهتمامهم، لكن تلك الغربان تصاب بالخيبة لأنه ما من أحد يعيرها اهتمامًا، ما دامت تنعق بعيدًا عن بلادنا ومؤسساتنا ووسائل إعلامنا، إمّا إن اقتربت من حياضنا فهنالك مواطنون أشداء في السوشيال ميديا نذروا أنفسهم للدفاع عن الوطن بالترصد لتلك الغربان التي لا تستحي من مواقفها المخزية تجاه بلادنا عندما تأتي زاحفة باحثة عن عمل أو استضافة في فعالية أو قناة تلفازية.
لقد دأب بعض هؤلاء طلب المجيء إلى بلادنا طالبين العمل فيها بعقود، على الرغم من السبع الموبقات التي ارتكبوها ضدنا، لكن إن كانت لا كرامة لأولئك المرتزقة فماذا عن الوطنية التي تستدعي أن يكون الجميع حماة للوطن ضد أولئك السفهاء؟ وهذا يستدعي عدم الاستجابة لتحقيق رغباتهم، بتوظيفهم أو استضافتهم في القنوات المحسوبة علينا، ولعلنا ما زلنا نذكر ذلك اللبناني الذي لا يختلف عمن سبقه بذاءة وحقدًا على بلادنا وقادتها فسعى للحصول على عمل في قناة تنتمي لبلادنا، ولولا أن انتبه لنعيقه في تويتر مواطنون شرفاء لكان اليوم يرتع في تلك القناة مستمتعًا بما يناله من رواتب عالية.
ولا يحتاج المتابع كثيرًا من الجهد ليكتشف أن هذا البوق أو ذاك مجرد متآمر وخائن باع نفسه في سوق النخاسة السياسية لمن يدفع له أكثر، فأهم ما يتصف به الحاقدون على بلادنا وقادتها وشعبنا الجرأة والكذب اللذان يستسهلونهما دون حياء ودون خجل، تجدهم يتقافزون كالجراد في القنوات الفضائية والصحف الإلكترونية، فيعتري المتابع العجب، هل يدرك هؤلاء ما يفعلون؟ وهل نزعوا قناع الحياء فلم يعد يضيرهم أن يكتشف الناس حقيقة كونهم مجرد مرتزقة يُدفع بهم ليبثوا سمومهم، وليمارسوا موهبة الشتم وحملات الاتهامات والأكاذيب التي تلبسوا بها على نحو مبتذل يكشف عن سوء منبتهم؟
ختامًا لا أعلم لماذا تشغل أمورُنا أولئك المرتزقة؟ ولماذا يحشرون أنوفهم فيما لا يعنيهم؟ بل لماذا يشكّل مستعربو الشمال الغالبية العظمى من الذين يكنون كل تلك الأحقاد علينا؟ لا ريب أننا مستهدفون وأعداؤنا والمتربصون بنا ملة كبيرة، وحتى الذين مازلنا نحسن إليهم وندعمهم صاروا من أكثر من يتمنى لنا الشر، وهو أمر مفهوم فكل ذي نعمة محسود، وإن هستيريا تلك الأبواق في الفضائيات المأجورة دليل على نجاحنا في التصدي لأسيادهم في تآمرهم على بلادنا، وكشفهم أمام العالم كله، كما أنه دليل صارخ على قلقهم من المقبل وما ينتظرهم من إخفاق حاولوا معالجته بالأكاذيب والخداع والأضاليل.
ثم ماذا عن دور إعلامنا الداخلي في هذه الحملة الشرسة؟ إننا لا نكاد نجد خطابًا إعلاميًا داخليًا مضادًا لتلك الحملات المسعورة، عدا ما يقوم به بعض نشطاء تويتر وبعض كتاب الرأي في معظم صحفنا من جهد واضح في هذا الصدد، فما أشدَّ حاجة إعلامنا الداخلي إلى جرعات منشطة ليفيق من سباته العميق، الذي إن كنا قد قبلنا به في الأوضاع المعتادة، فليس من اللائق بقاؤه في صورة لا أرى لا أسمع لا أتكلم! نحن بلا ريب في حرب ينبغي أن نجند لها كل أسلحتنا، ولن يتقاعس إلا من يعاني نقصًا في حسه الوطني.
** **
- د. حسناء عبدالعزيز القنيعير