أخذ الكتاب القارئ -بتؤدة- في سبر أغوار أيام المؤلف، وقد تأملتُ ملياً فيما يمكن استخلاصه «نفسياً» من هذا الكتاب فكانت النقاط التالية:
أولاً: بواكير الطفولة:
حيث نجح المؤلف في رسم صورة جميلة عن البيئة الوادعة بمكوناتها الرائعة بدءًا من بيوت الطين وما تبعثه من دفء حميمي يربط الإنسان بتكوينه الجبلي الذي يبثه «التراب» في أعماقه ليشعره بالاتساق العميق بأصله ومآله
ثانياً: حيرة روح طفل تواقة للانعتاق، ويتجسد ذلك منذ خطواته الأولى وهو يسير مع خاله ليضع قدمه الصغيرة على أولى عتبات سلم المعالي..ثم يقرر هلع هذا الطفل الصغير من التعاطي القاسي لبعض المدرسين حين لجأوا للضرب المبرح كوسيلة لتقويم السلوك، الأمر الذي تزامن مع ما يختلج في نفس هذا الطفل الغضة من حيرة ولعثمة سؤال.تلكم الحيرة التي دعته ليخرج ذات يوم من المدرسة أثناء اليوم الدراسي تسجيلاً لموقف رفض لهذا الواقع وليلاصق جسده النحيل على السور الخارجي للمدرسة منتظراً انصراف زملائه، ليعود لبيته حتى لا يشعر والده بما حدث، وهنا يتضح حجم الصراع الذي عايشه بين سلطتين: سلطة الأب وسلطة المدرس.هذا التطاحن أفضى إلى أسئلة وجودية عميقة داخل دهاليز نفس الفتى
ثانياً: أبرز سمات التكوين النفسي لوالد المؤلف -يرحمه الله- المتجلية في الكتاب:
يتضح بجلاء أن البناء النفسي لأبي فهّاد يضج بالسمات النفسية التالية:
-العصامية وتتجلى في نفسه النزاعة للاستقلال والاعتماد على الذات في تأمين الحياة الكريمة لأسرته، ويتضح كذلك في إصراره على تكوين منزله ومزرعته الخاصة، بالإضافة إلى تحمله أعمالاً قاسية تتطلب جهداً بدنياً مضنياً وترحاله خارج الحدود طلباً للدخل الكريم.
-الصبر ويتضح من خلال تقبله لفقد فلذة كبده بإيمان واحتساب، وكذلك لتحمله ما تتطلبه المهن التي زاولها من جهد بدني مضن ومن أبرزها حفر الآبار يدوياً والاحتطاب.
-الأنفة وتتجسد في عدم قبوله عطف أحد، ولعل أنصع مثال على ذلك هو إحضاره لكرتون سجائر لمدير المدرسة لتسليمه لابنه الذي لم يستلم راتبه لثلاثة أشهر ولم يتمكن بالتالي من شراء سجائره فأبت نفس أبو فهّاد سؤال ابنه لأحد إعطاءه سيجارة.
وربما يُلمح لهذه السمة اختياراته لأسماء أبنائه والتي جاءت على وزن «فعّال» فنجد فهّاد، عوّاد، دحّام.
-الحنو الأبوي المتجذر في أعماقه ويتجسد في سمة البساطة المتناهية من غير ذل والبعد المتعلق بالمظاهر والإحساس بالآخر، وكذلك علاقته الخاصة والحميمة نحو الأطفال والعصافير.
-إيمانه بضرورة التعليم وحرصه على توفير أسباب النجاح لأبنائه ومتابعة تحصيلهم وحثهم على التفوق.
ثالثاً: أبرز سمات التكوين النفسي للمؤلف المتجلية في الكتاب:
(1)سمة القلق والتي تمثل ربما أكثر سماته النفسية تجذراً في شخصيته وكأنه يتماهى مع قول المتنبي:
على قلق كأن الريح تحتي
أوجهها جنوباً أو شمالاً
ولا يُصنف القلق لديه على أنه «عُصابي» بل كان من النوع الإيجابي الدافع لرفض الواقع والبحث في صيرورة نحو التغيير والترقي وقد تجسد قلقه في أشكال عدة منها:
1) إلحاح صوت داخلي في نفسه بأن ثمة واقعاً أفضل وأفقاً أرحب.
2) شعوره بعدم الانتماء للسائد من الطقوس الاجتماعية التي كان يمارسها أقرانه سواء أثناء الدراسة أو في بيئة العمل الأولى.
3) إحساسه الراسخ بالاغتراب وتشبثه بـ «الحلم» في أن ثمة أفقاً أرحب وعرفاناً بجميل هذا «الحلم»، جاء إهداؤه لأطروحته للدكتوراه لهذا «الحلم».
(2)سمة الخلق الرفيع، فنجده حين يذكر أشخاصاً أساءوا إليه يخفي أسماءهم كالمدرسين الذين كانوا يضربون الطلاب في مدرسته الابتدائية، وكذلك بعض الزملاء الذين ساءهم خبر ترقيته لمنصب نائب مدير معهد الإدارة العامة ولم يحضروا الحفل الذي أقيم بهذه المناسبة تعبيراً عن رفضهم، وكذلك بعض الأساتذة الأمريكان الذين لم يكن على وفاق معهم، بينما -في المقابل- نجده قد ذكر أسماء كل من أحسن إليه صراحة بدءًا من بواكير الطفولة، مروراً بمراحل الدراسة في التعليم العام والجامعي والعالي، وانتهاءً بالوزارة، وفصّل في ذكر مناقب هؤلاء وتفاصيل أبرز مواقفه معهم.
(3)سمة البر بالوالدين، وتتجسد في مواقف منها:
1) مساعدته لوالده في عمليات المحاسبة المتعلقة بتجارته.
2) تشجيع ابنه البكر راكان على مرافقة والدته في مراجعاتها للمستشفيات بين الجوف والرياض.
3) إقرار تسمية أحد أبنائه دحّام نزولاً عند رغبة والده -يرحمه الله-.
4) حرصه على توفير كل ما كان يحتاج إليه والداه من مستلزمات حياتية ومادية.
5) قطعه إجازته التي يرافق بها زوجته -شفاها الله- في أمريكا وعودته سريعاً لزيارة والدته بمستشفى بالجوف، وحرصه على تقبيل جبينها قبيل رحيلها -يرحمها الله-.
6) حرصه على دفن والديه في مقابر تضم رفات والديهما.
7) ذكره لاسميهما في إهداء الكتاب.
8) سرده لمناقبهما وأبرز مواقفهما الإيجابية في مواضع مختلفة من الكتاب.
(4)سمة الوفاء لرفيقة دربه -شفاها الله-، وذكره مناقبها ومواقفها الطيبة معه، وقد خصّها بالإهداء للكتاب بعد والديه.
(5)سمة الأب المسؤول، فقد كان واضحاً في فلسفته التربوية الإيجابية والمحفزة لأبنائه الخمسة -حفظهم الله- منذ ولادتهم حتى استقلالهم انفعالياً ووظيفياً بعد نيلهم أرقى المؤهلات العلمية من جامعات ذات مستوى عال عالمياً.
(6)سمة الأنفة، ربما أنه ورث سمة الأنفة من والده -يرحمه الله- وقد تشربها في بنائه النفسي من خلال النمذجة، إذ شب على الطوق وهو ملاصق لوالده، فتماهى مع نموذجه، تتجسد أنفته منذ بواكير طفولته وقد ترجمتها عدة مواقف عديدة، منها:
1) رباطة الجأش التي تمتع بها بسن الثامنة وهو يرى شقيقه الأصغر يهوي إلى غياهب الجب، وتمثله لموقف والده النفسي تجاه من قال ببلادة: «دع فهّاد يسقط كأخيه فهو المسؤول»
2) إصراره على تأمين حياة كريمة منذ الثالث إعدادي وهو في عمر بدايات المراهقة (15 سنة).
3) تعويض الموهبة الفنية التي عند بعض أقرانه في معهد التربية الفنية بتركيزه على نوعية المواد الفنية المستخدمة، مما أفضى إلى تفوقه عليهم، وحصوله على الترتيب الأول على مستوى دفعته.
(7)سمة الإقدام، وقد تجسدت هذه السمة بشكل بارز في المواقف التالية:
1) تمكنه من تنفيذ قرار دراسته للثانوية العامة بنظام المنازل رُغم الكثير من ردود الأفعال المثبطة ممن حوله.
2) تحمله معاناة دراسة البكالوريوس انتساباً، وتخرجه بمرتبة شرف.
3) الطرق المضنية والتفصيلية التي سلكها للحصول على وظيفة في معهد الإدارة العامة.
4) إصراره على تعلم اللغة الإنجليزية وحصوله على درجتي الماجستير والدكتوراه في زمن قياسي، ولاسيما تمكنه من النجاح في الاختبار الشامل بُعيد السنة الأولى من برنامج الدكتوراه.
(8)سمة الصراحة والإبداع في الطرح، وقد تجسدت هذه السمة في المواقف التالية:
1) التعبير عمّا يؤمن به بشكل مباشر وواضح في كل مراحل حياته الوظيفية، فكمعلم تربية فنية كان مختلفاً وغير تقليدي، وقد تمكّن من توظيف مواد من البيئة المحلية بشكل يترجم إبداع يسكنه ويتيح خدمة طلابه كاقتباسه فكرة حائط بستان في دومة الجندل مكون من تراص لعسف النخيل، فقام بإنشاء كوخ على نفس الطراز في فناء المدرسة ليحتضن معرض التربية الفنية
2) ذكره طلب المساعدة في المقررات التي كانت تصعب عليه أثناء دراسته، خصوصاً في مرحلة دراسته للثانوية العامة بنظام المنازل، وكذلك في مرحلة الانتساب لدراسة البكالوريوس، ولاسيما مقررات الرياضيات والإحصاء واللغة الإنجليزية
3) مداخلاته تحت قبة برلمان مجلس الشورى كانت جميعها صريحة ومباشرة وتعكس تفكيراً منظماً للفكرة المراد إيصالها، ومن ذلكم المداخلات قوله لمعالي وزير الزراعة «إن عدم ترشيد المياه يعد انتحاراً لإنسان الوطن».
(9)سمة الاعتزاز بجذوره ومنطقته، ويتجلى ذلك في أمثلة منها:
1) إفراده فصلاً كاملاً من الكتاب بعنوان «الجذور» تحدث فيه عن تاريخ أسرته وطبيعة نشأته.
2) حديثه الراقي عن أخواله وجيرانه
3) أخذه لأبنائه لمشاهدة الأماكن التاريخية حيث ولد أجدادهم ونشأوا.
4) إشارته لنقص الخدمات في منطقته وربما نظر بعضهم لأبنائها بأنهم آتون من مكان «قصي» وتضمينه توجيها لهم بأن ذلك يجب ألّا يعيق طموحهم للمعالي ويُلمح بتواضع إلى أن يأخذوا من «خُلاصة» أيامه درسا يُحتذى به في العصامية.
(10)سمة الإداري، فبالإضافة لتخصصه الأكاديمي في الإدارة العامة وتمكنه منه وممارسته للقيادة الإدارية في مواقع مختلفة ومن خلال ترؤسه للجان ومجالس عديدة سواء داخل معهد الإدارة العامة أو في مجلس الشورى وأخيرا حين تسنمه منصب وزير، فإن المتأمل في سيرته يلمح تمتعه بسمة إدارية تتعلق بإدارته لنفسه بطريقة جادة ومن خلال معرفته بإدارة «المسافات» إذ إن لديه القدرة النفسية لوضع الحدود التي تتطلبها كل من علاقاته الشخصية (العلاقة الخاصة بينه وبين نفسه) وعلاقاته البين-شخصية (العلاقات بينه وبين الآخر) فالمثال الذي يجسد علاقته الشخصية حزمه في ترك عادة التدخين بلا رجعة ونجاحه في ذلك، والمثال الذي يبين بجلاء إدارته للعلاقات البين شخصية والتزامه بمسافة جادة ورسمية بينه وبين الآخرين من زملاء العمل ما تجسد في علاقاته الرسمية والجادة مع مدير معهد الإدارة العامة الأسبق معالي الدكتور محمد الطويل إذ تجاوزت علاقتهما ما يربو على العشرين عاما ولم يحتضنه بشكل حميمي إلا في منزل الدكتور الطويل بعد تقاعده.
(11)سمة الفنان متذوق الجمال، وهي سمة جلية منذ فجر الطفولة حين كان يتطلع للسماء مؤملا أن يقتبس من نورها ليكمل درسه حين يخيب ظنه بفتيل سراجه الذي أفل أيضا حين كان يتأمل النخيل وأنواع الفواكه والخضراوات، وحين يصغي لصوت العصافير صغيرا ولصوت فيروز شابا، وكذلك حين يصف خبراته الأولى في فصلي الربيع والخريف في أجواء أمريكا إن كرهه للسلاح وعدم امتلاكه قطعة سلاح في حياته كلها لخير دليل على نزعة الجمال والسلام داخل نفسه.
(12)سمة التربوي، إذ يتضح من خلال مضمون الكتاب النفس التربوي وأن المؤلف صاحب رسالة حاول توجيهها لأبنائه ولجيلهم وللأجيال القادمة كذلك مفادها الحرص على الثوابت والأخذ بأسباب المعرفة بلا تردد ولا وجل.
(13)سمة الرفض، إذ يتضح من خلال سيرة المؤلف الذاتية تجذر نزعة الرفض في بنائه النفسي، وتلكم نزعة تعد شرطاً ضرورياً لأي تغيير على المستوى الشخصي والمجتمعي، نجد لدى فهّاد ومنذ بواكير صباه الميل إلى رفض الوجود الناعس الساكن وكأنه يتماهى ويتمثل ما قاله الشاعر نزار قباني:
إنني رافض زماني وعصري
ومن الرفض تولد الأشياء
وكذلك يؤمن في الأعماق بقول الحق سبحانه وتعالى:
«إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ»، (الرعد:11).
إن الرفض سابق على التغيير ويفضي إليه، وهو المادة الخام التي تتشكل منه ثورة الإنسان النفسية على واقعه طلباً للانعتاق ورغبة في التغيير للأفضل.
وبعد هذه الجولة السريعة في فضاءات فهّاد النفسية، وإن أردت (كبسلة) وتلخيص هذه التجربة من الزاوية النفسية آخذا في عين الاعتبار محكّات الصحة النفسية ومعايير السوية مقابل معايير اللاسوية أو المرض النفسي فإن هذه التجربة الملهمة تعد مثالا للإجابة عن سؤال المفارقة: كيف تكون صحيحاً نفسياً مع وجود المعاناة، وبعبارة أخرى كيف تتمتع بصحة نفسية على الرُغم من الألم ولسعات شمس الواقع المحرقة، فأقول إن بالإمكان اختزال ذلك كله بمفردة واحدة هي: «الإيجابية»فلله دره من نموذج أنسن الإيجابية بشكل عملي بلا تنظير ولا حذلقة.
كانت هذه مجرد تأملات نفسية في كتاب (خُلاصة الأيام) لمؤلفه معالي الدكتور فهّاد بن معتاد الحمد أرجو أن أكون قد وُفقت في استخلاصها من هذا الكتاب القيم ومن تجربة مؤلفه المُلهمة.
** **
أ.د. سلطان بن موسى العويضة - أستاذ علم النفس - قسم علم النفس بجامعة الملك سعود