يُعدُّ اشتغال الروائيين على الطبقات المهمشة والأقليات المجتمعية في نصوصهم الروائية انتصارًا لقيم الأقلية وفرصها في ظل طغيان قيم وفرص الأكثرية، ويعدُّ -أيضًا- محاولة لخلق التوازن في طبقات المجتمع الواحد، ومحاولة أخرى لخلق الإيمان بالعدالة وتكافؤ الفرص في الوعي الجمعي، حتى وإن بدا ذلك مستحيلًا في الواقع.
وقد يؤدي الحماس في طرح موضوع الأقليات وإبراز حقوقهم، والرغبة القوية في الانتصار لهم بالكتابة الروائية، إلى خلق خطاب مبالغ فيه، يصف واقع تلك الأقليات بالكثير من العبارات التي فيها ادعاء المظلومية، وربما تحمل أفكارًا متطرفة تدخل في خطاب الكراهية ضد الأكثرية، لمجرد أنها أكثرية فقط! وبوعي أو بدون وعي؛ يصبح الروائي -أحيانًا- منحازًا بطريقة فيها الكثير من الحماس غير المنضبط إلى الأقليات، ويكون مدافعًا عن قضاياهم بأسلوب فيه الكثير من التجني، غاضًا الطرف عن الممارسات السلبية لتلك الأقليات في (الفكر، والسلوك، والأخلاق، والأمن وغير ذلك) ومسلطًا الضوء على ممارسات الأكثرية التي -بالتأكيد- لا تخلو من أخطاء وأخطار، خاصة إذا كان ذلك الروائي منتميًا إلى فئة أقلية في حياته الواقعية، فيكتب بقلم المحامي، ويغدو عنصريًا أكثر من مخالفيه، ويخلق خطابًا أقليًا أشد ضراوة وأسوأ عاقبة وأثرًا مع مرور الزمن؛ لأن أفراد مجتمعه الذين يتأثرون به، يتوارثون شعور التظلم جيلًا بعد جيل، ويضيق عليهم الخناق من أنفسهم فترة تلو فترة، ويتكاثرون وهم ما زالوا أقلية في رأيهم ورأي الأكثرية، في لبي هذا الخطاب حاجاتهم النفسية، ويؤمنون بضرورة المقاومة وحتمية الصراع، الذي ربما أصبح صراعًا على (من يلغي الثاني أكثر)، بدلًا من أن يكون صراعًا من أجل التوازن والعدالة والحصول على الحقوق.
ومن يقرأ رواية «سمراويت» لحجي جابر -التي حظيت باحتفاء كبير فور صدورها، ونالت جائزة الشارقة، وكتبت عنها العديد من الصحف العربية، وتلقفتها أيدي القراء بالكثير من التصفيق، وتناولتها أقلام النقاد بالكثير من التعليق- لن تفوته تلك الإشارات اللغوية التي «تضرب من تحت الحزام» في ثقافة مجتمعنا السعودي وفي سلوكه وعلاقته بالآخر، بل وعلاقته بالدين، ومحاولة إبراز أي سمة تناقض في هذا المجتمع على أنها صفة ثابتة سلبية لا توجد في المجتمعات الفطرية الطاهرة، التي منها المجتمع الإرتيري!! حيث نجح هذا المجتمع البسيط –كما يرى الكاتب- في أن يتفوق على مجتمعنا في مقارنة صاغها بأسلوبه عن زيارته الأولى لوطنه الأم، بعد أن قضى عمره كاملًا في كنف وطنه بالتبني:
«تذكرت جدتي وهي تصر على أن إسلام إرتريا أجمل، كنا نناكفها فتعجز عن مجاراتنا دون أن تغير رأيها. الآن ربما لم تعد جدتي بحاجة لدليل، فالدين هنا يحتفظ بنكهته الكاملة رغم وجوده القديم. خرجت من الجامع مبللا بالخجل بعد أن دخلته سائحا قادما من «البقاع الطاهرة».
وحين يضع الكاتب «البقاع الطاهرة» بين علامتي تنصيص؛ فكأنما أضاء إشارة حمراء ليوقف القارئ عندها، ويطلب منه إعادة النظر في مصداقيتها، والعلامات أبلغ من العبارات أحيانًا!
وفي موضع آخر من الرواية، يورد الكاتب حدث قرار السماح بالجنسية السعودية للأجانب وفق شروط معينة، ويذكر طلب رئيس التحرير من بطل القصة مهمة الاتصال بالمشايخ السعوديين ليأخذ رأيهم، فكان رد أحدهم عليه:
«وجود هالأجانب برأيي سبب لمشاكل كثيرة، يكفي أنهم يسببون التلوث».
ثم يعلق البطل بعدها:
«لم أعد أعي ما قاله الشيخ بعد جملته تلك».
هكذا يقف عاجزًا عن إدراك ما قاله الشيخ، فيصمت، والصمت هنا أبلغ من الكلام، وأبلغ في إبراز الفكرة التي يعالجها في هذا الموضع من النص الروائي!! وجابر في هذا الحوار –كما هو في حوارات أخرى- يحاول ترسيخ فكرة احتقار المجتمع السعودي للأجانب، بعبارات مغرقة في التطرف العنصري، ممن يفترض فيهم العدالة واحترام الإنسان المسلم، وهم فئة المشايخ، وكأنه يقول: هذا موقف مشايخهم وأهل الدين منهم، فماذا عن بقية طبقات المجتمع؟!
والنصوص التي يمكن الاستشهاد بها في هذه الرواية على الانحياز غير المنضبط عند الكاتب إلى قضية الأقلية الإرترية في السعودية كثيرة، ولولا ضيق المساحة لذكرتها للقارئ الكريم، والفن –عموما- يتسم بالمبالغة، إلا أن من حق القارئ الناقد، أن يقف على إشارات النصوص اللغوية التي وردت في الرواية، ويحللها ويفسرها، ويبين الهدف منها في وجهة نظره، ويحيلهما إلى خطابها الحقيقي، مادام البعض يرى أن من حق الكاتب المبدع، أن يلجأ للمبالغة في طرح فكرته، وينتقم بقلمه من حالة «اللاانتماء» التي يعيشها، في وطن أعطاه أكثر مما أعطاه «وطنُه» الأم، وهيأ له فرصة كبيرة ليصبح صحفيًا بارعًا، ثم منحه مادة دسمة ليكون كاتبًا روائيًا متميزًا!
** **
د. حمد الهزاع - أكاديمي وناقد
h.hza@hotmail.com