أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
- 1 -
رأينا في المساق السابق موقف (الفرزدق) السَّلبي من المرأة. وكذلك أنَّ (جريرًا) لم يكن بأحسن حالًا منه، وهو يُعلن موقفه منذ مطلع قصيدته المشهورة في وفاة امرأته:
لَولا الحَياءُ، لَعادَني استِعبارُ
ولَزُرتُ قَبرَكِ، والحَبيبُ يُزارُ
فهو في هذا المطلع يصرِّح أنَّه لن يستعبر على امرأته، فضلًا عن أن يبكيها، ولن يزور قبرها، على الرُّغم من أن قبور الأحبَّة تُزار عادةً! لن يفعل هذا ولا ذاك، والعياذ الله! وإنْ كانت تستحق الاستعبار والزيارة، كما سيُعقِب بيته الأوَّل. والسبب: (الحياء).
إنَّ الحياء هنا هو الحياء من المجتمع الذكوري، ذي الأعراف العنصريَّة، الذي يَعُدُّ من العيب بكاء النساء، أو زيارة قبورهن. أ فحقًّا، إذن، كان جرير في قصيدته يكسر النموذج السَّلبي في الموقف من المرأة؟ كلَّا، بل هو الآخَر يُعلِن التزامه باحتقار المرأة، وأن بكاءها بعد موتها، أو زيارة قبرها، يحول دونهما سيف الحياء، والالتزام بما تقتضيه رجولة الرجال. ومع هذا فهو يعترف بمنزلتها، ويُثني عليها، من حيث الأصل والفصل، والأخلاق، ثناءً قَبَليًّا، أشبه بالثناء على آبائها منه بالثناء عليها هي، ولذاتها.
أمَّا لماذا أطال جرير في الثناء على صاحبته هذه (أُمِّ حزرة: خالدة) من حيث الأصل والفصل والأخلاق؟ فذلك من أجل مفاخرة الفرزدق، لا أكثر. لأنه كان في مقام مفاخرة الفرزدق بمكانة امرأته، وليس لسواد عينيها! لكي يأتي هذا في مقابل هجاء امرأة الفرزدق، وهجاء أُمِّه أيضًا:
أَ فَأُمّ حَزْرَةَ يا فَرَزدَقُ عِبتُمُ
غَضِبَ المَليكُ عَلَيكُمُ القَهَّارُ
لَيسَتْ كَأُمِّكَ إِذْ يَعَضُّ بِقُرطِها
قَينٌ وَلَيسَ عَلى القُرونِ خِمارُ
حَدراءُ أَنكَرَتِ القُيونَ وريحَهُمْ
والحُرُّ يَمنَعُ ضَيمَهُ الإِنكارُ
قالَ الفَرَزدَقُ: رَقِّعي أَكيارَنا
قالَت: وكَيفَ تُرَقَّعُ الأَكيارُ(1)
ذاك هو سياق الملاحاة بين الرجلَين، مفاخرةً ومهاجاة، مقابل مفاخرةٍ ومهاجاة. كلٌّ منهما يهجو امرأة الآخَر، ويتنقَّصها، فيردُّ الآخَر بتبرئة امرأته، وتفضيلها على امرأة صاحبه- وإنْ تحفَّظ، طبعًا، على ما يمكن أن يُمَسَّ به شرفه القَبَليُّ من ادِّعاء بكاءٍ عليها عند موتها، ومهما كانت منزلتها لديه، أو في قومها- ثمَّ يُتبِع ذلك، لتكتمل الملهاة، بهجاء امرأة خصمه. وهكذا دواليك.
تلك كل الحكاية. وهي حكايةٌ شِعريَّةٌ محكومةٌ بسياقاتها، وباستنطاق خطاباتها، لا بظاهرها الخدَّاع. وعليه، فلا فرق في النهاية بين الفرزدق وجرير في اتِّباعهما «مِلَّةً قَيسيَّةً» واحدة، تعود إلى جَدِّهما المشترك، وائد البنات- وإنْ كان، للمفارقة، مُؤذِّنَ المتنبِّئة (سجاح)، حسب بعض الروايات- أعني: (قيس بن عاصم المنقري)، المنسوب إليه أبيات منها:
أَضْحَتْ نَبيَّتُنا أُنثى نُطيفُ بهــا
وأَصبَحَـتْ أنبيـاءُ اللهِ ذُكـرانـا!(2)
ولأجل ذلك جاءنا جرير منذ أوَّل أنفاس القصيدة رافعًا راية البراءة من تهمة التمرُّد على النسق الذكوري، على الرغم من المسوِّغات الكثيرة التي ساقها لمثل ذلك التمرُّد: «لولا... لـ...». وهي مسوِّغاتٌ تعزِّز بدَورها مباهاته بالصمود في وجه العواطف، حتى لا تستدرجه إلى أن يطرأ في باله مجرَّد الاستعبار، وليس البكاء، أو زيارة قبر امرأته، خالدة. فدون ذلك خَرْط القتاد الاجتماعي. ولكي يوازن بين (هجاء امرأة خصمه)، و(مفاخرته بامرأته هو)- مع الحفاظ على احترام الخطوط الحمراء الراسخة في موضوع ازدراء المرأة، والخروج من ذلك كلِّه بسلام، كالشعرة من العجين- رأينا كيف جاءت قصيدته، تقدِّم رِجلًا وتؤخِّر أخرى: «لولا... لـ.../ لـ... لولا...»!
وهذا برهانٌ على أنَّ هؤلاء ورثة القِيَم الجاهليَّة، وإنْ تَسمَّوا بالإسلام.
ويلفت النظر أنَّ هذه المواقف تجيء في مواجهة موت المرأة: (المرأة- والموت)، أ تُرثَى عند موتها؟ أم أنها أهون من ذلك؟ فما ظنُّك بما قبل الموت؟!
- 2 -
ولقد يُحسَب (لأبي الطيِّب المتنبِّي)- مع عروبيَّته الصميمة- أنَّه خالفَ بعض التمييز العنصري ضِدّ المرأة، الذي تجلَّى لدَى الشعراء وغيرهم، من سابقيه ولاحقيه، ومنهم (البحتري) و(المعرِّي)، فرثَى جَدَّته، ورثَى أُمَّ (سيف الدَّولة)، ورثَى أُخته. وقد تبيَّن أنَّ مثل هذا الحِسِّ الإنسانيِّ كان شاحبًا في الشِّعر العَرَبيِّ القديم بعامَّة. القصيدة الأولى في رثاء جَدَّته، هي ذات المطلع:
أَلا لا أَرَى الأَحداثَ حَمْدًا ولا ذَمَّا
فَما بَطْشُها جَهلًا وَلا كَفُّها حِلْما
والقصيدة الأخرى في رثاء أُمِّ سيف الدَّولة، هي ذات المطلع:
نُعِدُّ المَشرَفِيَّةَ والعَوالي
وتَقتُلُنا المَنُوْنُ بِلا قِتالِ
والقصيدة الثالثة في رثاء أُخت سيف الدَّولة، هي ذات المطلع:
يا أُختَ خَيرِ أَخٍ يا بِنتَ خَيرِ أَبِ
كِنايَةً بِهِما عَن أَشرَفِ النَّسَبِ
وفي المساق التالي نواصل لتحليل هذه القصائد.(3)
- - - - - - - - - - - - - -
(1) جرير، (1986)، ديوان جرير، بشرح: محمَّد بن حبيب، تحقيق: نعمان محمَّد أمين طه، (القاهر: دار المعارف)، 3: 862- 875.
(2) انظر: الثعالبي، (2003)، ثمار القلوب، تحقيق: محمَّد أبي الفضل إبراهيم، (بيروت: المكتبة العصريَّة)، 1: 258؛ الأصفهاني، (2008)، الأغاني، تحقيق: إحسان عبَّاس وإبراهيم السعافين وبكر عبَّاس، (بيروت: دار صادر)، 14: 57؛ الزمخشري، (1992)، ربيع الأبرار، تحقيق: عبد الأمير مهنا، (بيروت: مؤسَّسة الأعلمي)، 2: 254؛ المسعودي، (د.ت)، مروج الذهب، عناية: يوسف البقاعي، (بيروت: دار إحياء التراث العربي)، 2: 465. على أن البيت قد يُنسَب في غير هذه المراجع إلى غير (ابن عاصم). وربما سِيق مع غيره في هجاء (سجاح)، لا في الثناء عليها، كما في (الزمخشري، م.ن).
(3) هذا المقال جزء رابع من ورقة بحث حِواريَّة قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جُدَّة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https://www.youtube.com/watch?v=ZSZF936qzsY