د. أبو أوس إبراهيم الشمسان
يحس اللغوي أمام تراثه العريض بثقل الأمانة الملقاة على عاتقه، فهو يعود إليه محققًا ومحلّلًا. وليس التراث ملكًا للمحققين بل هو ملك للأمة، عليها أن تعود إليه - لأنه ثابت من ثوابت ثقافتها وتكوينها المعرفي والثقافي، فيه تاريخها - محتفظةً بمزية التخيّر وفضيلة الانتقاء بما تمتلكه من وسائل العصر واستوى لها من منهج عصري استفاد من تلاقح الحضارات؛ ومن أجل ذلك كله لا يملك اللغوي أن يبث وحده في هذا التراث الحياة؛ لأن الإحياء اللغوي عمل جمعي؛ إذ اللغة انعكاس لنظرة المجتمع اللغوي المؤلف من دوائر متقاطعة، فليس كل فرد محيطًا بمجمل اللغة، بل يدرك منها ما يتصل بحياته، على أن طائفة من مفرداتها هو حظ مشترك اشتراك الناس بملابسات الحياة نفسها.
وهاجس تغير نمط الحياة تغيرًا يعصف بما يمثله من لغة هو ما دعا اللغويين القدماء إلى أن ينشطوا لجمع اللغة، فسافروا من أجل ذلك إلى البوادي أو تلقوا الأعراب القادمين أو استنبطوا ذلك من أشعار العرب المنشدة المتداولة بين الرواة. ولقد أحس اللغويون أن لغتهم منذ وقت مبكر بدأت تَسَفَّع بالدخيل. وإن هي أمكن أن تستوعب ذلك الدخيل حين كانت لغة تمتلك من المكانة ما امتلكه أهلها من العزة والرفعة فهي اليوم تعاني من نكوص أبنائها عن الاحتفاء بها واستعمالها استعمالًا يجعلها نابضة بالحياة. فحين كان القانون هو كتاب الطب المعلم كانت العربية لغة العلم. أما اليوم فأبناء العربية يتعلمون علومهم بلغات أجنبية دون عذر واضح أو حجة دامغة سوى الإلف لأمر ضرب بجرانه وناء بكلكله فأقصى العربية عن ميدانها.
إن التفتت الدكتورة فاطمة الأمين إلى دراسة كتاب أبي زيد الأنصاري(1) عن المطر فهي إنما تلمّح حينًا وتصرّح حينًا بالواجب القومي علينا جميعًا، ومن تصريحها أن هذا كتاب يهم الجغرافيين أهمية بالغة إذ فيه من المصطلحات الدقيقة ما يغنيهم عن التعريب أو استعمال الأعجمي وإدخاله في العربية لجهلنا بما يقابل ذلك من لغة العرب.
كتاب أبي زيد هو نواة كغيره من كتب اللغة المتقدمة استطاع من خلفوه أن يستفيدوا منها في بناء معجماتهم الواسعة. ومثل هذه الكتب جمعت اللغة من قبائل مختلفة فهي تحوي الاختلافات اللهجية وهذا ما يفسر الثراء اللغوي الذي قد يحس بعض الناس أنه عبء ثقيل، وهو في مجمله تنوع سببه اختلاف القبائل في تسمية الظواهر المتماثلة.
درست الدكتورة فاطمة الأمين كتاب المطر لأبي زيد دراسة لغوية ووضعت له معجمًا ييسر الوصول إلى ما فيه من مصطلحات ويشرحها. تحدثت الباحثة عن كتاب المطر ومنهج أبي زيد في تصنيفه ووازنت بين أقواله وأقوال غيره من اللغويين مثل أبي عمرو والأصمعي وابن قتيبة وابن سيده. أما المعجم فقسمته أقسامًا وظيفية هي: أسماء المطر، أسماء المياه، أسماء السحاب، أسماء البرق، أسماء الرعد، أسماء الركية وغطاؤها.
وقد أحسنت الباحثة في تعريفنا كتابَ أبي زيد ودرسه ووضع معجم لمضمونه يعين الباحثين على الاستفادة منه. وهو عمل علمي يشف عن شغف باللغة واهتمام بالتراث وغيرة على العربية أمام طوفان اللغات الأعجمية التي تكاد لا تبقي ولا تذر. ولعل الغيورين من المتصدين لوضع المصطلحات يجدون في هذا العمل ما يعينهم على عملهم.
... ... ... ...
(1) فاطمة الأمين جمعة، كتاب المطر لأبي زيد الأنصاري: دراسة لغوية، مركز البحوث في مركز الدراسات الجامعية للبنات-كلية الآداب، جامعة الملك سعود/ الرياض، 1414هـ. وأما كتاب المطر نفسه فنشر غير مرة منها نشرة الأب لويس شيخو اليسوعي، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين/ بيروت، 1905م، ومنها نشرة أحمد لطفي عبدالمنعم دويدار، في مجلة كلية اللغة العربية-جامعة الأزهر بالمنصورة، ع27، ج4، جمهورية مصر العربية، المنصورة، 2008م.