نقبت عن دفاترها، وأوراقها المبعثرة؛ استغلَّت ما تبقى منها لم تمسه سنة قلم، بنهاية الفصل الدراسي الأول، وكذلك الفصل الثاني، شرعت تسجل فيها، خواطر، وقصصًا، وحين تخطر على بالها فكرة، أو شاهدت حدثًا أو سمعت عن قضية اجتماعية في أيام الدراسة، تبادر بانتزاع ورقتين من منتصف أقرب دفتر تقع عيناها عليه؛ حتى لا تقطع ورقة من مكان آخر بالدفتر، فتفقد ورقة بها واجب منزلي، أو نشاط صفي؛جمعتها، وأعادت ترتيبها زمنيًا.
اختزنت ذاكرتها هموم وشجون مجتمعها، وطموح شباب وفتيات، وحجة أن أفضل أسلوب لتمرير أفكارها، أن تسردها في قالب أدبي...
رضعت أولى طموحاتها، من حلمة عطاء أم رؤوم لا تنضب، ومن بيئة مدرستها الابتدائية، رغم بنائها المتواضع، إلا أن معلماتها شموع تنير دروبًا مظلمة، بصيص أمل يحدوها، وهالة عزيمة ورضا نفس بأن تحقق ما تصبو إليه؛ نالت إعجاب معلماتها، لم تتجاوز ثمانية عشر ربيعًا، طقس القرية رطبٌ؛ لا كهرباء؛ الفصول كانت مبنية من القش، الفصل عبارة عن عريش، من الأثل، باب وفتحة يسمحان بقدر جيد من تهوية، وإضاءة عبر ذرات من أشعة شمس في فصل الشتاء, يتبدل الأمر مع نهاية العام حيث تبدأ بوادر إطلالة شهور الصيف وما أطول نهارها، وشتائها العابر سريعًا.
المعلمات يقتلن ملل الحصة السابعة؛ باستدعاء «صالحة» لتسرد حكايات وقصصًا التقطت بعضها من جدتها؛ وبعضها بنت اللحظة، تنسجها من خيالها؛ استثمرت تلك الموهبة رفدتها مع ما منحها الله من قوة بيان وقدرة على السبك وتدوير الزوايا.
بكلمة منها لزميلاتها تأخذ صفة الأمر المطاع بأريحية لا بقهر صولجان، تجد قبولًا، خُلِقت بكاريزما طاغية، فما أن تدخل المدرسة حتى تقف الجالسة من زميلاتها، ومن كانت تلهو في فناء المدرسة الترابي المحض تدنو منها بتؤدة حتى لا تتطاير الأتربة مع مقدمها؛ احتراماً وإجلالاً.
تمضي السنون وتتبدل مشاهد المدينة فعمرانها القديم اكتسحته الطفرة؛ وصندوق التنمية العقارية بدأ ينشط, مشاريع المباني المدرسية توالت مع مماحكة سماسرة جشعون نفعيون، الأسعار بدأت ترتفع تارة وتستقر؛ سلم الرواتب تحسن، كل شيء تغير, اختفى التراب تدريجيًا من المنازل وحل محله الإسمنت فالبلاط، لم يعد للقطط مكان تقضي فيه حاجتها، سايرت الرّكب فتبدلت طباعها وأضحت تأنف دورات مياه البشر؛ وتقضي حاجتها بمداخل البيوت وإن سنحت لها الفرصة، على فرش الأطفال والكبار؛ تُعاقب بشرًا جراء كفْر تراب أثير بطبقات أسمنتية أو ببلاط أبيض منقوش بحصيات سوداء، لم يعد بالإمكان له مكان.
وهكذا بعض البشر لا يتورعون عن التخلي عن قيم يدعونها نظير إشباع شهواتهم السلطوية المترعة في الأنانية. بقيت «صالحة» متفردة في المحافظة على كينونتها، تواصل مشوارها؛ تتقن سرد قصصها.
مع تخرجها من المرحلة الثانوية لم يكن يخطر ببالها أن تشق طريقاً آخر غير دراسة الأدب والتعمق فيه؛ رفضت أن تلتحق بمعهد إعداد المعلمات، لم تشأ أن تكبل مواهبها بوظيفة معلمة؛ قاومت رغبة والدها الجامحة كي تسد له بابا وتعينه على نوائب الدهر؛ ساير رغبتها بالدراسة خارج مسقط رأسها، قابل منطقتها بالترحاب؛ تاركًا أسرته في عهدة ابنه الأكبر حيث يتولى أمور الزراعة بأراضٍ زراعية خصبة، قريبة من داره الواسعة، ليست بمساحتها فقط بل بسعة صدر الأم التي يقع على عاتقها الجزء الأكبر من مهام البيت فلا تقابل ذلك إلا بالرضا.
سافر وابنته «صالحة» إلى خارج المنطقة، بعد أن تم قبولها بكلية الآداب؛ هام أمنياتها؛ تستقطع الجزء الأكبر من مكافأتها لابتياع روايات مترجمة للعربية، وروايات عربية؛ تلتهم كل ما تقع عليها عينها من قصص؛ مع هضمها جيِّدا مقررات الأدب.
تفوقت في تحصيلها؛ تعمقت في كتابة القصص القصيرة؛ بدأت بنشر قصتها بصحف المدينة ومجلاتها تحت اسم مستعار تارة، وأخرى باسمها الصريح؛ عكفت على لملمة أوراق حبلى بالقصص، ومن دفاتر واجبات بقيت صفحات منها فارغة..
بدأت تدور في رأسها فكرة إصدار كتاب يخلِّد قصصها، قصدت إحدى مكاتب خدمات الطلاب الخاصة، طبعتها، وحفظتها بمغلف بطباعة فائقة الإتقان، وناولها الناسخ الذي تولى طباعتها وتغليفها نسخة على قرص مدمج (سي دي؛ عشية ذلك اليوم، باتت تخطط وتسترجع سنوات دراستها الأولى ورحلتها مع قراءة الحرف والكلمة، جل طموحها حينذاك أن تتعلم كيف تقرأ وتكتب مرورًا بمراحل دراستها التالية، أخذتها غفوة، بعد أن وضعت المغلف والقرص المدمج على طاولة متهالكة بجوار سرير نومها.
استيقظت صباحًا باليوم الأول من عطلة نهاية الأسبوع، حملت المغلف والقرص المدمج «سي دي»، اتجهت صوب إحدى دور الطباعة والنشر؛ رفضت تسلّم أعمالها ما لم يتم إجازتها من إدارة المطبوعات؛ صُدِمَت، أطرقت رأسها أرضًا، استعادت رباطة جأشها، لم يكن بقاموسها شيءٌ اسمه المستحيل؛ لا يكبح عزيمتها إحباط، تمتلك قوة الإرادة وصعبة المراس...
توجّهت بأعمالها لتحصل على الموافقة وسلمت المغلف مع القرص المدمج مع خطاب بطلب رخص طباعة كتاب، وتمضي أشهر دراستها بالسنة الأولى بالجامعة خارج منطقتها، يرافقها والدها، قصدت جهة الترخيص، تستعلم عما تم حيال كتابها، اكتفى الموظف المختص بطلب عنوانها، ليتم موافاتها بالبريد بما تقرر نحو طلبها بغضون ثلاثة أسابيع إذا كانت مقيمة خارج المدينة أو من منطقة أبعد؛عادت ووالدها وقد اجتازت أول عام بامتياز.
لم تنتظر طويلًا حتى تسلمت من مأمور بريد القرية، مظروفًا، فضته وإذ به يفيد أن قصصها القصيرة غير صالحة للنشر لوجود بعض الكلمات المنافية للذوق العام، دون أن يعاد معه المغلف والقرص المدمج أو بيان الكلمات التي تسببت برفض الترخيص.
ثارت ثائرتُها، اتصلت عبر مركز هاتف وحيد بالقرية، تستفسر عن تلك الكلمات التي وصفها الخطاب أنها منافية للذوق العام فلم يرد عليها أحد؛ صرفت النظر، حتى بداية العام الدراسي.
ثاني يوم من الأسبوع ما قبل الأخير على انتهاء إجازة نهاية العام، أرسل مسؤول مكتب الهاتف في طلب والدها لاتصال مهم، توجه والدها، وإذ بالمسؤول عن إجازة طباعة الكتب، يعتذر منه، وأن خطأً وقع فيه أحد زملائه؛ وأن كتاب ابنته لا يزال قيد المراجعة وبأنه سيجاز على الأرجح، مثنيًا على مجهود ابنته «صالحة» وروعة قصصها، وسترسل الموافقة في القريب العاجل.
بدأ يلمح لوالدها، عن موعد عودته وابنته؛ أبلغه بعد عشرة أيام، فقال له: حسنًا بإمكاني زيارة قريتكم الرائعة التي أنجبت كاتبة بهذا السن، وبدأ يكيل المديح ويعيده ويكرره، ثم تدرج إلى أن استمزج رأي والدها أن يتشرف بزيارته في منتصف الأسبوع قبيل عودته وابنته للمدينة.
رحب به كعادة أهل القرى وكرمهم، زارهم وضيفوه، وقبل أن يستأذنهم للمغادرة، طلب من والد «صالحة» أن يكلمه على انفراد، ليفاجئه طالبًا يد ابنته وجل ما يريده كلمة قبول مبدئية، سأله ماذا تعني، قلها مباشرة؛ لم أفهم ما تلمح إليه، رد والدها مرحباً وقال له: لتحضر كما يأتي الناس بصحبة والدك، وبعد شهرين في إجازة منتصف الفصل الأول للعام الدراسي المقبل حيث أكون وهي متواجديْن وتشرفنا؛ ومنها يحضر الأولاد.. حيث اعتادوا هم وزوجاتهم وأطفالهم أن يمضوا إجازتهم بالقرية، أما «صالحة» لم تعد تفكر بأمر إجازة الرواية؛ انتفض الموظف المسؤول، ألم أقل لك قريبًا ستتم إجازة كتاب ابنتك «صالحة»، اكتفى بالرد عليه: خير إن شاء الله، اتفقت «صالحة» ووالدها ألا تعلم أمها أو أي من أخواتها وأخواتها عن دواعي زيارة الموظف.
لم يكشف والد «صالحة» بعد وصول خطاب رفض إجازة الكتاب للموظف أثناء مقابلته، عن سفره وابنته لإحدى الدول العربية، كانا قبل ذلك قد استخرجا نسخة «سي دي» من مكتب خدمات طباعة وتغليف ونسخ كان قد قصداه سابقًا، وقد اتفقا مع إحدى دور النشر بعد قبولها طباعة الكتاب، أن يدفع نصف تكلفة الطباعة بموجب عقد رسمي، وبعد وصول رقم بوليصة شحن عشرة كتب بالبريد الممتاز، يدفع النصف الأخير، ويتم إرسال مائة كتاب على العنوان البريدي بعد تلقي رقم الفسح.
مع عودتهما أرسلت نسخة لقسم المطبوعات مع «سي دي». من حسن الصدف أن الموظف العاشق في إجازته السنوية، وقد كُّلِّف آخر بمهامه؛ لم يمض شهر واحدٌ، حتى وصلها بالبريد إذن الفسح.
أبلغها والدها، بطلب الموظف المساوم، لم تعقب بحرف واحد؛ وكأنها غير معنية بهذا الأمر؛ كان يدور بخلدها أن ترد الصاع صاعين.. للموظف والمصنّف «أديباً»، سألت والدها عن وقت السفر للمدينة، أبلغها قبيل موعد أول يوم دراسي جامعي بثلاثة أيام، مستفسرًا إياها، عما إذا كان لها رأيٌ آخر، تقديمًا أو تأخيرًا، ردت عليه بالإيجاب.
قبيل سفرهما بيومين، في أحد المساءات الباهتة؛ وصل الموظف ومعه والده، أشار والد «صالحة» أن تتوجه النساء إلى باب خلفي، حيث «صالحة» وأمها وشقيقاتها وزوجات أشقائها.
سار والد «صالحة» والموظف ووالده صوب مجلس الرجال، عرّف والدها بضيفيه ومن بصحبتهما واستقبلوا كما يستقبل الضيوف، بالبداية المعهودة، السؤال عن الحال والأجواء وما إلى ذلك من رحم المجاملة..
بدأ الموظف العاشق يتحدث مكررًا اعتذاره أن التباسًا وقع فيه؛ ضمنَه خطابَ إعادته نسخ الكتاب، وأن عليهم انتظار خطاب إجازة كتاب صالحة فور مباشرته عمله بعد إجازته دون أن يرد والدها بكلمة، بل مال إلى والد المتقدم للخطبة، مرحبًا يتجاذب معه أطراف الحديث عن الزراعة والأمطار، فيما الموظف يفرك كفيه، فيما معالم محياه مكشوفة؛ يشتاط غضبًا عن تجاهل تطميناته واعتذاره، يرمق والده، يستحثه أن يبدأ بالحديث عما جاء من أجله.
اعتذر والده، أن يقطع الحديث الجانبي على مضيِّفهم، وأبلغ والده الموظف والد «صالحة» والحضور أنه يطلب يد «صالحة» لابنه، لم يُعَقّب والدها ببنت شفة، استأذن وتوجه لباب دخول النساء؛ طرقه، حضرت أم «صالحة»، قائلة: ألا تعلم أن نساء داخل البيت ماذا تريد، قال لها ممازحًا: أوصيك أن تختاري لي واحدة من بنات ضيفتك، اكتفت بالرد: يا دافع البلاء من تخاريفك، سألها عما إذا أفصحت لها والدة الموظف إياه عن شيء، أجابت بالنفي، مشيرة إلى أن الأم وبناتها مفتونات بابنتنا «صالحة»، لكن لم يقلن ما وراء مديحهن، لم يعقب مطالبًا إياها أن تعود وتأتي «صالحة».
وفور قدومها بادرها بابتسامة، وأتبعها بدعابة، ستقضين إجازة منتصف العام الدراسي المقبل مع الضيف بعد أن تتم مراسم الزواج، سألته ما الأمر أتسألني وأنت تعلم رأيي، فأخبرها بما هذر به الضيف. فقالت له: آسفة لن أتزوجه ولو قدم لي مال الدنيا؛ ومتى جاء نصيبي يقدم الله الذي فيه الخير؛ أما هو فلا وألف لا. طمأنها والدُها مُكْبِرًا موقفها: لئن كان ردك غير هذا لم أكن لأفخر بك بعد اليوم....
عاد والد «صالحة» إلى المجلس حيث الخاطب العاشق ووالده ونفر من أهله وقال له: بعد العَشاء إن شاء الله يكون خيراً, دعاهم إلى العشاء وأجلسهما حيث يجلس الضيوف، وبعد العشاء كالعادة تدار فناجين القهوة.... سأله عن طلبه خطبة ابنته ماذا كان ردّها، وكأنه لم يسمعه وأشار إلى أحد أبنائه أن يناوله مظروفا أبيض اللون، يعلو خزانة كتب، بركن المجلس، وقدمه هدية له، فتحه، وأخرج الكتاب.. فصعق وتغطرس بسؤال ليسلب من والد «صالحة» نشوة الانتصار عليه، فأعاد الكتاب بالظرف ووضعه بجانبه وكأنه لم يره أو يعبأ به، معقِّبًا: «وماذا عن طلبي يد ابنتك: قال له: انسَ الموضوع صاحبة الشأن رفضت رفضاً قطعياً، رد عليه بلهجة يُشتَمُ منها التعالي المؤطر بصلف غبي: مستحيل... لا يُمكن... وسنرى!! كتابها لن يجاز، تبسم والدها ابتسامة نقية مغلفة بزهو المنتصر الواثق المطمئن، متمنيًا عليه أن يهدأ، ويقلب صفحات الكتاب، أخرج الكتاب من المظروف وجد في منتصفه صورة من خطاب شهادة فسح وتوزيع كتاب ابنته؛ أردف والدها، وقد سبقته وثيقة الإيداع ، هزّ رأسه، يتمتم تقرض قواطعه شفتيه، تارة، وأخرى يشد شنبه الكث. من هول صفعة بامتياز، معلنة انتهاء مشروع مساومته الغبية، وكأنما مسه جان أو ماس كهربائي، مصرحًا بصوت مسموع: بأن حق القوة سينتصر..، سأله والد «صالحة»: ما ذا تقصد؟ قال: ابنتك ترفضني؛ وكتابها حتى لو كان طبع وأجازه موظف غبي أرعن لن تتمكن من المشاركة به في معرض الكتاب، وسيُحقَّق مع من أجازه...
وقف والده مؤنبًا إياه: لا يصح أن تسيء أدبك في رحاب مضيفك، سحبه خارج المجلس وعاد معتذرًا من مضيفيه، مطالبًا إياه بإبلاغ النساء أن يخرجن، وقد أزف موعد الانصراف.
فور عودة الموظف ووالده ومن معهم مساء بالسيارة، بالكاد تناول كوبًا من لبن، ونام، ليستعد مبكرًا، ويباشر عمله بعد إجازته، وما أن اعتلى كرسي مكتبه الوثير طفق، يلف به يمنة ويسرة، يهذي، يرغي ويزبد، فيما سكرتيره واقفًا، سأله بصلف من أجاز رواية... أثناء إجازته، أبلغه السكرتير؛ الذي سلمته عهدة مكتبك، شكل لجنة أخرى أجازت الكتاب.
ولمَّا يكمل يومه الأول، شرع يكتب خطابا لمديره العام يبلغه بملابسات إجازة وفسح كتاب...، مقترحًا إحالة من أجازه للشؤون القانونية، وقبل أن ينهى كتابة مسودة الخطاب، أزمع ليدق جرس نداء السكرتير؛ دلف بنفسه، وناوله خطاباً أومأ إليه أن يضعه بملف الأوراق التي لم توقع بعد، ويعرضه عليه لاحًقا، قال له: هذا مظروفه لم يفُض بعد، وهكذا خطابات الخاصة لم تخول لي أن افتحه، سآتيك بملف الخطابات اليومية بعد أن أفرغ من تسجيلها، أما هذا الخطاب كما قلت لك.. سأله: لماذا؟ قال: خاص لعنايتكم، جذبه من يده بعصبيّة، بعد أن وضع قلمه على مكتبه ولما يفرغ بعد من طلبه الموافقة بإحالة زميله الذي أجار الكتاب بفترة غيابه للتحقيق.
شرع يقرأ الخطاب، فحواه.. اعتمدوا مباشرة عملكم الجديد يوم غدٍ بمعرض الكتاب مسؤولًا عن النسخ المجازة للتوقيع بالمعرض مرفقة ببيان بأسماء المؤلفين والكتاب المرخص لهم بتوقيع كتبهم بمنصة التوقيع، وسلِّم ما بعهدتك اليوم لعناية المدون اسمه....».
هز رأسه بحركة لا إرادية،وأكمل كتابة المسودة واستدار صوب حاسوبه وكتب الخطاب، ثم نهض من مكتبه، وخلال مروره من السكرتارية، شرع يهذي: هكذا يا سكرتير الشؤم، حاملاً خطابه بيده قاصدًا المدير العام، استأذن مدير مكتب المدير العام.. للدخول، طالبه بالانتظار، دخل لإبلاغ المدير العام: عاد قائلا له: المدير العام أبلغني أن تعود إلى مكتبك،وبعد الظهر سيأتي، رئيس قسم التراخيص الجديد، سلمه العهدة وباشر غدا بالقسم الجديد بمعرض الكتاب وفقًا للخطاب الذي وصلك آنفًا.
ومع انصرافه لمح في منتصف الممر الطويل المؤدي لمكتب المدير العام، والد «صالحة» وفتاة تسير خلفه وبيدها كتاب لم يغب غلافه عن ناظريه ساعة صدمته عشية خطبته البائرة، كانا مستغرقين بالحديث مع موظف قابلاه في الممر وبسرعة البرق راغ إلى مكتب مجاور لتحاشي والد «صالحة»، انتظر بضع دقائق يختلس النظر من باب موارب يفتح على الممر بين الفينة والأخرى، رمق الموظف الذي كان يقف معهما بنهاية الممر، فيما لم يعد لـ»صالحة» ووالدها ظل.
نادى عليه؛ تظاهر وكأنه لم يسمعه، حثَّ الخطى نحوه، وكأنه يرمل بالمسعى بين العلمين الأخضرين، لحق به، وكان لا يزال يلهث، حدثه بصوت منهك؛ لا يكاد يبين؛ ماذا عن الرجل والفتاة اللذين كانا واقفيْن معك؟ أبلغه أنهما كانا يسألان عن مكتب المسؤول عن تسلّم خطاب يحملانه مع نسخة من كتاب لتوقيعه بمعرض الكتاب، وليدرج اسم الكاتبة «صالحة» بجدول التوقيعات المرخصة، وقد أبلغها بالحضور باليوم التالي لتسليم الخطاب للموظف الجديد.
باشر الموظف الأرعن عمله الجديد، وما أن وصل؛ شاهد «صالحة» ووالدها ينتظران في غرفة الاستقبال؛ دخل مكتبه؛ ولما يستقر بعد ويلتقط أنفاسه، دخلت «صالحة» ووالدها فألقى والدها السلام.. فلم يرد التحية بمثلها، أسرها في نفسه ولم يبدها له؛ اختارت «صالحة» أن تجلس على كرسيٍّ قبالة مكتبه؛ فيما والدها اتجه صوبه؛ ناوله الخطاب؛ نظر إليه مغتاظًا؛ يزم شفتيه، ولسان حاله - يحق لكما أن تشمتا بي –، لم يعر نظرته أدنى اهتمام، مكتفيًا بقراءة شفتيه، أولج يده في الجيب الأيسر من ثوبه، وناوله مظروف دعوة لحضور عقد قران ابنته من أحد أقاربها؛ بعد انتهاء فعاليات معرض الكتاب.
قبل أن يهم بالانصراف، وقفت «صالحة» بمحاذاة والدها، ثم مالت على إحدى أُذنيه هامسة إليه، أن يستفسر منه عن الساعة التي يتعين عليها الحضور لارتقاء منصة التوقيعات، نقل سؤال ابنته إليه، فقال له:
- ستجدني غدًا بالمعرض قبالة المنصة اضرب لكما تعظيم سلام؛ انصرفا عن وجهي الآن.
التفت والدها إليه وقال له:
- لا تنس تلبية الدعوة وهويتك المدنية، لتكن الشاهد الثاني.. وتركاه واقفًا...
** **
- محمد المنصور الحازمي