الحالة المُكرّرة؛ أوالتراكم، كما يفعلُ الغُبار تفعل الأوراق المتناثرة على المكاتبِ وبين الكماشاتِ التي تعيد تدوير الأشياءِ المعلبة إلى الفناء؛ أن تصل إلى يدٍ عابثة اختارت تحريك قلمٍ مجهول على ورقة…الحالة المُكررة؛ هي الذاكرة التي تجترُ مرارًا بالاستنساخ طباقًا، وكأن الحياة تدور في عجلةٍ لا تراوح المحل، وكأن الأشخاص قد صيروا سرابًا إلا كائنًا واحدا تسلط عليهِ أضواء الشعور.
عليّ أن أُجمع الفراغ على نحوٍ ما، وأملأ بهِ فجواتِ الذاكرةِ، والسطور الولهى على سيرةِ وجودٍ مديد؛ ما زلتُ متعجبًا من الكائناتِ التي تعشق تمثّل الغبار في تفاصيل وجودها الغريب. أمس سحنتي بشذرِ الماضي الذي يُهفهف بقيظ الصيف الذي لم يهبط بعد، فدرجةُ الحرارة تشير إلى الخامسة والأربعين ولمّا يحط أغسطس رحاله، إيّه يا رياض ألا يكفي تعشقنا الثملُ بكِ ربيعًا لا يزولُ عن تهطل النسناس…
يسأل المعلبون عن الخِبرة، عن مُدةِ بقائك طويلاً على الكُرسي حدّ توحدكما، مفتشين عن العدمِ خلف الجُملِ التي تشيدُ إنسانًا من وُريقات…لا تنبضُ في هذهِ السير الحياة، إنها تشكل دائرا للتكرار.
لم أستطع البقاء شذرةً من زمانِ على هذا الكُرسي الذي يتسلق جسدي كشجرةِ عنبٍ طموحة، لذا دعوتُ أصدقائيّ للتندر عليّ والقول: إنّي الأشياء التي أمارس العمل عليها؛ فأنا هذه الطاولة، وهذا الكمبيوتر، بينما يتغذى هو على بقائيّ الهزيل، إذ أتسربُ كغيمةٍ تتكوّن في المياهِ شديدة الملوحة، ثم ترحل صابغةً وجودها الجميل على أرضٍ صبِخة! حتى هذهِ الأرض التي تطرد عنها النباتات باذخة الجمال، إنها بيئة مُبشرة لذاكرتي التي تنقض وتتشقق لتخرج من جِلدها أكثر رونقًا وصفاء…
ليست لغتي هذهِ تراكمًا فكم الكتب التي قرأتها في مكتبةِ جدي بالكادِ تشرئبُ من كليماتٍ كتبتها، لم أرغب أبدًا أن أكون مخزنًا للكائناتِ والأشياءِ التي لم تعد قادرةً على المواكبةِ والعمل بلحظةٍ ما، في باحةِ الشرودِ هذه استمتعتُ كثيرًا أنّي لستُ في باحةِ التراكم، منذُ طفولتي لم أكن أحرص على الحفاظ على الأشياء، كانت لُعبي بيد أطفال العائلة، كذلك الأحداث التي لم تجد لها متسعًا في خلدي الحالم جِدًا فراحت تختزن في الأثاث وفي مشاعرِ الناس المليئين بيّ للغياب لتصبح شكلاً آخر للبقاء؛ إنّني شكلٌ مقدود في ملامحِ الوجود؛ كجوهرةٍ نفيسة.
تبدو السيّرة شكلاً لسعينا في الحياةِ، بينما تسعى الحياةُ بنا لتشكل وجودها، وتتراكم عبر الكلماتِ لترسم سحنةً لقدراتنا بينما تتكوّن مهاراتنا في رحمِ شعورنا الذي يُولدنا من جديد مرارًا. أشيدُ جسدي عابرًا الحدود التي تتناسلُ منها الأنهار ربيعًا…
تتغير الكلمات في معملِ المعاني، تلبس لبوسًا آخر، لكن النصّ يبقى محافظًا على شكلهِ الأول…الذي لم يعد كما كان حين خُلق. أشكل سيرتي من السرابِ الذي يحمل جسدي عبر ردهِ ما يصيرُ، سامعًا في العمقِ صوت النورِ الذي يناديني: يا عاهل آلام العالمين، من اللغةِ خرجت أول مرّةٍ وإليها تعود أركز مَدّة، وأعبر مسافةً، وأدق وجودا.
** **
هيثم بن محمد البرغش - محامٍ وروائي
@SSU_Haytham