يعكُز علماء الإملاء في العصر الحديث على قاعدة الأقوى في بناء ما قعَّدوه في رسم الهمزة في وسط الكلمة أو في نهايتها، فتكاد تتلمَّسُ هذه القاعدة في أغلب كُتب الإملاء الحديثة إن لم تكن كلّها. وعلى الرَّغم من ذلك لا تُلفي نمطًا متَّفَقًا عليه في طرح هذه القاعدة؛ لغياب النَّصّ الأمّ الذي انبثقت منه هذه الأُطروحات، وإغفال مسألة السَّاكن المعتلّ ومراتب القوَّة فيه، الشَّطر الذي بُنِيت عليه تلك القاعدة؛ فكثرتْ بذلك حالاتهم الشَّاذة، وتعدَّدت عللُهم وتوجيهاتهم، في حين لم يكن لهذه الشَّواذّ في قاعدة الأستاذ بشير محمد سلمو إلَّا الحكم عينه الذي لغيرها، ولا تعليلَ لها غير علَّة «الأقوى» على وَفق التَّرتيب الذي طرحه (رحمه الله تعالى).
وتجدر الإشارةُ إلى أنَّنا نعتنا قاعدتَه هذه بالنَّظريَّة؛ لأنَّها نظريَّةٌ حقَّا، متكاملة الأركان، فهي «فرضٌ علميٌّ يربط عدَّة قواعد بعضها ببعضٍ، ويردُّها إلى مبدأ واحدٍ يمكن أن يُستنبَطَ منه حتمًا أحكامًا وقواعد»(1). فضلًا عن نصِّ الدُّكتور أحمد مصطفى أبو الخير الذي سبقنا في الإشارة إليها بهذا النَّعت بقوله: «إذ هي فكرةٌ مبتكَرة، أو قُل نظريَّةٌ جديدةٌ في رسم الهمزة»(2). وأردفناها بــ(الأقوى)؛ بيانًا لها، فهو المصطلح الذي ارتضاه الأستاذ سلمو لقاعدته مُسمِّيًا إيَّاها بـ»قاعدة الأقوى لكلِّ الهمزات وسط الكلمة وآخِرها»، وأمَّا (الإملائيّ)؛ فوصفٌ جئنا به أمنًا للَّبس ومنعًا للتَّداخل والازدواجيَّة بينه وبين الأقوى الصَّوتي؛ لاختلافهما في المدلول، فالأوَّل دلالته على الكسرة، والثَّاني دالٌّ على الضَّمة.
واللهَ نسألُ أن يكتبَ لهذا الإسهام المتواضع في إظهار جهود هذا الرَّجل العظيم، وكشفِ جوانبَ من نظريَّته هذه وأثرها في الإملاء العربيّ تعلُّمًا وتعليمًا؛ أن يكتبَ له القَبول والرِّضى، وينفعَ به حيثَّ حلَّ واقتضى.
المسألة الأولى: تعريفها
تتلخَّص هذه النَّظريَّة بأنَّ رسم الهمزة في وسط الكلمة أو في نهايتها تستندُ إلى معيار قوة الحركة للهمزة أو التي قبلها. قال الشَّيخ بشيرمحمد سلمو: «ننظر لشكل الهمزة من حركة أو سكون، ولشكل ما قبلها كذلك ثم نحكم للأقوى من الاثنينِ، أو لهما معًا إذا كانا في درجةٍ واحدةٍ»(3). فهي قائمةٌ على أربعة أركانٍ:
أوَّلًا: المقارنة: هي الجمع بين حركة الهمزة من جهة والحرف الذي قبلها وحركته من جهةٍ أُخرى.
ثانيًا: الموازنة: النَّظرُ إليهما من حيثُ بنية الحرف صحَّةً واعتلالًا، ورُتبة الحركة قوَّةً وضعفًا، «وأقوى الحركات الكسرة وتطلب الهمزة على ياءٍ، ثمَّ الضَّمَّة وتطلب الهمزة على واوٍ، ثم الفتحة وتطلب الهمزة على ألفٍ، ثم سكون الحرف الصَّحيح وتطلب الهمزة مفردةً ... أمَّا سكون الحروف المعتلَّة فيطلب الهمزة مفردةً كالسُّكون الصَّحيح»(4)، ولكن تختلف قوَّته في المعتلّ بحسب حرفه، فـ»يتغلَّب السُّكون المعتلّ على حركة الهمزة التي في درجتها أو أقلّ منه دون ما فوقه، هكذا: الياء في درجة الكسرة، الواو في درجة الضَّمَّة، الألف في درجة الفتحة، فبالنَّظر إلى الاسم نجد أنَّها كالماء يسيل على ما بجانبيه وعلى ما تحته دون ما فوقه، فسكون الياء يتغلَّبُ على كسرة الهمزة التي في درجتها وعلى ما دونها وهو الضَّمَّة والفتحة، وسكون الواو يتغلَّبُ على ضمَّة الهمزة التي في درجتها وعلى الفتحة التي دونها ولا يتغلَّب على كسرتها؛ لأنَّها فوق درجتها، وسكون الألف يتغلَّبُ على الفتحة التي في درجتها ولا يتغلَّب على الضَّمَّة والكسرة لأنَّهما فوقها»(5).
ثالثًا: المحاكمة: أي إصدار الحكم للحرف الأولى بكتابة الهمزة عليه بناءً على نتيجة الموازنة، وعلى وفق التَّرتيب الآتي: سكون الياء فالكسرة، فسكون الواو فالضَّمَّة، فسكون الألف فالفتحة، فالسُّكون للحرف الصَّحيح.
رابعًا: المناسبة: هي معرفة الحرف المجانس للحركة التي يُحكَم لها بالأولويَّة، كالآتي: الكسرة تُناسب الياء، والضَّمَّة تُناسب الواو، والفتحة تُناسبُ الألف، والسُّكون مطلقًا لا يُناسبها شيءٌ فتُكتَب الهمزة معها مفردةً على السَّطر، والهمزة في آخر الكلمة تُعدُّ ساكنةً. قال سلمو: «لا تنسَ أنَّ السُّكونَ مطلقًا يطلب الإفراد سواء كان صحيحًا أم معتلًّا، لكن تختلف قوَّته في المعتلّ بحسب حروفه ألفًا أو واوًا أو ياءً»(6).
المسألة الثَّانية: صاحبها
لم أظفر -على طول تنقيري وبحثي، وسَبْر استقصائي في كتب التَّراجم والسِّيَر، وسؤالي لكلّ مَن وجدتُّ في نَسبِه اسمَ سلمو في مواقع التَّواصل عن هذا الرَّجل العظيم صاحب الفكرة النَّابغة والأيادي السَّابغة في تعلُّمنا وتعليمنا لقاعدة الأقوى في رسم ال همزة في الإملاء العربيّ- لم أظفر بشيءٍ من سيرته وحياته الشَّخصيَّة أو العلميَّة سوى أنَّه (بشير محمد سلمو، كان معلِّمًا في المعاهد الأزهريَّة، عاش في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين)، في الوقت الذي تعجُّ فيه مصادر المعلومات المقروءة والمرئيَّة والمسموعة بالتَّراجِم الكاملة الوافية، والسِّيَر الكافية الشَّافية لأولئك الذين ليس لهم في الأُمَّة من أثرٍ ناجعٍ إلَّا أسماءَهم، ولا فضلَ لهم عليها إلا أعدادهم! والله المستعان!
المسألة الثَّالثة: قصَّتُها
نقل الدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب وهو يتحدَّث عن قاعدة الأقوى لكلِّ الهمزَات قصَّتَها قائلًا: «كان بشير محمد سلمو رائدًا حقًّا، في اكتشافه هذه القاعدة التي تحكم كتابة كلِّ الهمزات في وسط الكلمة وآخرها. وعلى الرَّغم من أنَّه نشر بحثَه مكتوبًا بخطِّ اليد في سبتمبر سنة 1953م. فإنَّ أحدًا لم يُشِر إليه ممَّن كتبوا في قواعد الإملاء في العصر الحديث، من أمثال: فتحي الخولي، وعبد العليم إبراهيم، وعبد السَّلام هارون.
وعندما تقدَّمتُ ببحثي عن تيسير تعليم الهمزة إلى مجمع اللُّغة العربيَّة، كنتُ أجهل أنا كذلك كلَّ شيءٍ عن هذا الكتاب المختصر الحاوي للكثير من الفوائد. وكان الفضلُ في لفت نظري إليه راجعًا إلى شيخنا العلَّامة محمد شوقي أمين عضو المجمع رحمه الله. وقد تكرَّم فأهداني مُصوَّرةً من بحث الشَّيخ بشير سلمو، ثم نشره مع قرار المجمع الذي وافق فيه على القرار المقدَّم مني إليه»(7). ونُشر بحث الأستاذ بشير في محاضر جلسات المجلس والمؤتمر في الدَّورة السَّادسة والأربعين لمجمع اللُّغة العربيَّة بالقاهرة، سنة 1984م.
المسألة الرَّابعة: عيوبها
أخذ الدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب على قاعدة سلمو عدَّة ملاحظاتٍ، فقال: «وعلى الرَّغم ممَّا يبدو في هذه القاعدة من الوضوح واليُسر، فإنَّ عدم تنبيه الشَّيخ بشير سلمو إلى موضوع كراهة توالي الأمثال، أوقعَه في شيءٍ غير قليلٍ من المخالفات لما هو شائع من رسم الهمزة، كما كثرت تنبيهاته التي يستثني فيها بعض ما يريد إخراجه من قاعدته»(8).
ومن هذه الملاحظات:
أوَّلًا: الاستفاضة في تفصيل ضوابط الهمزة التي قبلها ساكنٌ معتلٌّ استفاضةً شغلَت من بحثه الموجز جانبًا غير قليلٍ.
ثانيًا: لم يفطن إلى موضوع كراهة توالي الأمثال في الخطِّ العربيّ، فعدَّ رسم مثل: (رءوف) و(بدءوا) استثناءً من القاعدة، وذكر أنَّ مثل: (يقرأان) يُكتَب بألفينِ.
ثالثًا: السُّكوت عن طريقة كتابة بعض مسائل الهمزة، نحو: (شؤون) و(بُطئًا).
رابعًا: الالتزام بصورة واحدة في رسم مثل: (شيئك)، سواءٌ أكانت الهمزة مضمومةً أو مكسورةً أو مفتوحةً.
ويمكن أن نُضيفَ: خامسًا: استعماله مصطلح «الأقوى» الذي يختلف مفهومه في الإملاء عنه في علم الصَّوت؛ إذ يُقصَد به في الإملاء الكسرة، أمَّا في الصَّوت فيعني الضَّمة؛ فيُسبِّب الازدواجيَّة والتَّداخل والتَّشويش لدى المتلقِّي؛ لذا عدل المجمع القاهريّ عن مصطلَحَي (القوَّة) و(أقوى الحركتَين) اللَّذَين استعملهما الدُّكتور رمضان عبد التَّوَّاب في مقترَحه عن الهمزة على المجمع، إلى مصطلَحَي (الأولويَّة) و(أَولَى الحركتَين)، فنصَّ في قراره الذي اتَّخذه في دورته السَّادسة والأربعين (1978-1979) على أن: «تُكتَب الهمزة في أوَّل الكلمة بألفٍ مطلقًا، أمَّا في الوسط فإنَّه يُنظَر فيها إلى حركتها وحركة ما قبلها، وتُكتَب على ما يوافق أَولى الحركتينِ من الحروف»(9).
الرُّدود:
أمَّا أوَّلًا فمدفوعٌ بما يأتي:
1. لأنَّه صاحبُ السَّبقِ -في مبلغ علمنا- في القول بأنَّ السَّاكن المعتلّ أقوى رتبةً من حركة الهمزة التي في درجته والتي دونه، فقَمِنٌ به أن يُبرهن على جِدَّة طرحه وأوَّليَّة فكرته بما يُثبتها ويُقرِّرها، فالنُّفوس تتردَّد في قَبول ما هو جديدٌ ما لم يُقطَع به بالأدلَّة والشَّواهد قطعًا يُطَمئِنُ المتلقِّيَ إلى صحَّتها واطِّرادها.
2. الاستفاضة في إيراد الأمثلة والإكثار منها في تقريب القواعد ممَّا يُستحسَن في مقام التَّعليم والتَّدريس، فإن كان كذلك فهو ممَّا يُحتسَب له ويُثنَى عليه به، لا أن يُلاحَظ عليه ويُؤاخَذ به!
وأمَّا ثانيًا فيُردُّ بما يأتي:
1. لا مشاحَّة في الاصطلاح والتَّوصيف، ولا اعتداد بالخلاف اللَّفظيّ الذي لا ينتج أثرًا، فسواءٌ أعَلَّلنا رسم الهمزة مفردةً على السَّطر بالاستثناء من القاعدة أم بكراهة توالي الأمثال، لا يُغيّر من حقيقة رسمها شيئًا.
2. إنَّ العلماء كرهوا توالي الواوين في بناء اسم المفعول من المعتلّ العين، وقالوا: «إنَّ مَصْوُون ومَقْوُود شاذَّانِ لا يُقاسُ عليهما»(10)، ليت شعري وما علاقة «شؤون» و»رؤوف» و»بدؤوا» بــ»مَصوُون»؟! إذ العرب كرهت الثَّانية بسبب الثّقل اللَّفظيّ في النُّطق بالواوين، إضافةً إلى أنَّ حرف العلَّة متحرّكٌ وقبله ساكنٌ صحيحٌ، وهو ممَّا يُستكر َه في علم الصَّرف، غير أنَّها -أي: العرب- أقرَّت النُّطق بـ»شؤون»؛ لأنَّ الأُولى همزةٌ والثَّانية واوٌ، فلم يلتَقِ مِثلانِ، فإذا كانت «شؤون» غير مستَكرهة لفظًا، قُطِعت العلاقة بينها وبين «مَصوُون»، فما الذي يدعو إلى عقد صلةٍ بين مسألتين متفقتين في الكتابة مختلفتين في النُّطق؟(11)
3. لماذا تنحصر الكراهةُ عندهم في الألفين والواوين دون الياءَين اللَّتين يُساغُ التقاؤهما دون كراهةٍ، نحو: «خطيئة»، و»بيئة»؟!، وماذا عن اجتماع الأمثال في نحو: «مُصطفَيَينِ» ودُنيَيَينِ»؟!
4. إذا كان السَّبب في كراهيَّتهم هو اجتماع الواوين في الكتابة، فلماذا يُقرُّون كتابة مثل: يَستوون، يَلوون، احتووا، بواوين؟!(12) ولا يجعلون ما كرهوا مطَّرِدًا في كلِّ مواضِعه!
5. مسألة كراهة توالي الأمثال في الخطِّ، نحو: (رؤوف) و(شؤون) من خصائص المدرسة المصريَّة، وليست من المسائل المجمَع عليها، فلا تُسلِّم بها المدارس الإملائية الحديثة الأخرى، فلم تُعوِّل عليها المدرسة العراقيَّة(13)، ولم تلتفت إليها المدرسة الشَّاميَّة(14)، وبمثلهما صنعت المدرسة الخليجيَّة(15).
وأمَّا ثالثًا فليس ذلك بسكوتٍ؛ لأنَّ تلك المسائل منضوِيةٌ تحت قاعدته العامَّة، فهي تُكتَب كما تُكتَب نظائرها، فــ»شؤون» تُكتَب عنده على الياء، هكذا: «شُئون»؛ بناءً على أنَّ الهمزة فيها رُسمت على السَّطر استثناءً، ثمَّ كان الحرف الذي قبلها ممَّا يتَّصلُ بما بعده فكُتِبت على المتَّسع بعد وصل ما قبلها بما بعدها.
وأمَّا رابعًا فالاعتراض على التزامه بصورة واحدة في رسم نحو (شيئك)، مهما كانت حركة الهمزة، مردودٌ بأنَّ رسمَ الهمزة بهذه الصُّورة في هذه المواضع هو الرَّسمُ عينه في مذهب الجمهور إن لم يكن ممَّا اتُّفِق عليه بلا خلاف. فأمَّا ما كانت فيه الهمزة مكسورةً فهذا واضحٌ لا غموض فيه، وما كانت فيه مضمومةً أو مفتوحةً فرسمه أيضًا على الياء بيدَ أنَّ تعليلَه يختلف، فالشَّيخ سلمو يُعلِّلُه بكون سكون الياء أقوى من الضَّمَّة في «شيئُك»، وأقوى من الفتحة في «شيئَك»، في حين يقول الآخرون بالرَّسم عينه ولكن يعدُّونهما من الشَّواذّ على القاعدة. ولا شكَّ أنَّ الأفضلَ علينا «أن نسعى -إذا ما قرَّرنا أيَّة قاعدةٍ- في تهيئة الاطِّراد والسَّيروة لها، ونخفِّفَ من الاستثناءات الخاصَّة بها بقدر الإمكان»(16)، رسمًا وحكمًا أو تعليلًا وتوجيهًا.
وأمَّا خامسًا فيمكن الاحتجاج له والجواب عنه بأنَّ تعدُّد مفاهيم المصطلحات واردٌ في كثير من العلوم والفنون، فعلى سبيل المثال: الخبر في النَّحو غير الخبر في البلاغة وغيره في علم الحديث. ومثله: المفرد في الصَّرف غيره في النَّحو. ونحو ذلك. فضلًا عن توافر قرينة الاستعمال التي تُعين على البيان والإيضاح، وتحدُّ من التَّداخل والاضطراب، فتجعل استعمالَه في مُنتأى عن الغموض والالتباس.
المسألة الخامسة: خصائصها
تمتاز نظريَّة الأقوى بعدَّة خصائصَ، تجعلها متفوِّقةً على غيرها من الأُطروحات التي قُدِّمت إسهامًا في تيسير مشكلة الهمزة وتسهيل كتابتها، نُجملها فيما يأتي:
أوَّلًا: الشُّمول والمعاجلة الكاملة لمسائل الهمزة في وسط الكلمة وآخِرها، وتحقُّق الحكم والعلَّة في جميع المسائل دون أن يخرج منها شيءٌ إلَّا بمانعٍ مُعتدٍّ به.
ثانيًا: استيعاب ما اتُّفِق عليه، والبناء على الصَّحيح المشهور ممَّا فيه خلاف، وعدم السَّيرورة على رأي ضعيفٍ قطّ(17).
ثالثًا: الجِدَّة في القول بالتَّفريق بين السُّكون الصَّحيح والمعتلّ، وجعل القوَّة في السُّكون المعتلّ على مراتبَ، فقال: «أُحبُّ أن أُنبِّهَ إلى أنَّ بعضَ الأقدمين قد أشار إلى أنَّ بعضَ الحركات أقوى من بعضٍ، وهي إشارةٌ خاطئةٌ بتراء لا تصلح لتطبيقٍ؛ ذلك لأنَّها قالت إنَّ الفتح أقوى من السُّكون، ولم تُفرِّق بين السُّكون الصَّحيح والمعتلّ ولم تُبيِّن الأقوى في السُّكون المعتلّ، ولهذا جرى عامَّةُ المؤلِّفينَ في الإملاء على طريقة السَّرد فقط، تاركينَ ناحية الأقوى نهائيًّا؛ لأنَّ تطبيقها بهذا الوضع خطأٌ واضحٌ»(18).
رابعًا: الاقتصاد في إحكام المسائل بقانون واحدٍ، والإيجاز في التَّعليل بالاكتفاء بالأقوى في توجيه جميع المسائل، من غير اللُّجوء إلى القوانين اللُّغويَّة الأخرى، نحو: قانون كراهة توالي الأمثال، وقانون وصل الحروف ما أمكن، وقانون معاملة صوت اللِّين معاملة الحركة الطَّويلة، وغيرها من القوانين التي اضطُّر الآخرون إلى القول بها عندما أعادوا نظريَّته بصيغة أخرى، وأغفلوا مسألة مراعاة السَّاكن المعتلّ ومراتبه؛ فانسلخت بها هذه النَّظرية عن حقيقتها التي جاء بها صاحبُها. وهذه ميزةٌ فيها من شأنها تحقيق غرضٍ تربويٍّ مهمٍّ يُسهِّلُ قواعدَ رسم الهمزة على النَّاشئة والمتعلمين، ويُجنِّبهم أوجهَ الكثرة في الأحكام والعِلل.
خامسًا: التَّماسك والتَّكامل، والخلوّ من التَّناقض بين المسائل في الحكم والتَّعليل.
سادسًا: السُّهولة واليُسر، والوضوح في قُرْبها إلى ذهن المخاطَب، قال الأستاذ سلمو: «فهذه قاعدةٌ واحدةٌ جديدةٌ شاملةٌ لكلِّ أحوال الهمزة وسط الكلمة وآخِرها، تمتاز بسهولة إدراكها ثم بعدم نسيانها؛ وذلك لبساطتها وبنائها على التَّعقُّل لا على مجرد الاستظهار، إذ لم أعتمد كما كان متَّبعًا من قبل على طريقة السَّرد فقط بتعداد حالات الهمزة مفردةً أو على ألف أو واو أو ياءٍ، وذكر حكم كلِّ حالةٍ على حدَةٍ بدون قاعدةٍ عامَّةٍ ورابطٍ يربط بين هذه الحالات المختلفة وهي كثيرةٌ تربو على الثَّلاثين ومشتبه بعضها ببعضٍ، وفي ذلك عُسر كبير من ناحيتين:
1. في الإحاطة بأحكام هذه الحالات الكثيرة المشتبه بعضها ببعضٍ كلّ على حدَةٍ.
2. بعد أن يستظهر الدَّارسُ هذه الأحوال ويجهد نفسه في تحصيلها لا يلبث أن ينساها؛ وذلك لكثرتها وبُعدها عن التَّعقُّل وتفكُّكها وعدم ربطها بقانون عامّ، فليس عجيبًا بعد هذا أن نرى الأخطاء الكثيرة الشَّائعة، حتى عند كثيرٍ من المتعلِّمين الذين قضوا مرحلة كبيرة في التَّعليم، وليس عجيبًا كذلك أن نرى إخوانَنا المدرِّسين أنفسهم يفِرُّون من تدريس الإملاء بهذه الطَّريقة.
أمَّا طريقتنا فقد جمعتْ بين الحُسنَيَينِ، وأنقذَتنا من المشقَّتَينِ، وأفرَغتْ كلَّ هذه الحالات المختلفة للهمزات في قاعدة واحدة ميسورة تنزل في سُهولتها إلى مستوى الصِّغار من الدَّارسين، ثمَّ بعد ذلك لا تُنسى»(19).
سابعًا: الاطِّراد المتحقِّق في مسائل رسم الهمزة تحقُّقًا جامعًا لا يَخرج عنه شيء منه، ومانعًا لا يَدخل فيه ما ليس منه إلا بسببٍ مُعتدٍّ به، كالذي يُعرَف لدى بعض المعاصرين بكراهة توالي الأمثال فيما يراه في رسم نحو: (رءوف). أو ما يُعرَف بقانون وصل الحروف ما أمكن، المبني على السبب الذي سبقه، كما في رسم نحو: (شئون)، على وَفق ما يراه. فإذا ما أُلغيَ القول بكراهة توالي الأمثال كانت -أو كادت- مسائل رسم الهمزة من المسائل المتَّفق عليها في ضوء هذه النَّظريَّة.
المسألة السَّادسة: فوائدها
من جملة فوائد هذه النَّظريَّة ما يأتي:
1. تيسير مشكلة الهمزة، وتسهيلها على الطَّلبة والدَّارسين من العرب وغير العرب.
2. توفير كثيرٍ من الوقت والجهد في تعلُّم مسائل رسم الهمزة وتعليمها.
3. توحيد كتابة الهمزة في الإملاء العربيّ.
4. إلغاء المسائل الخلافيَّة بين المدارس الإملائيَّة الحديثة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) المعجم الفلسفيّ:203.
(2) القول الفصل في رسم همزتَي القطع والوصل:4.
(3) (4) (5) (6) قاعدة الأقوى لكلِّ الهمزات:2، 5، 4 الهامش (1).
(7) (8) مشكلة الهمزة العربيَّة:88، 89-90.
(9) مجموعة القرارات العلميَّة في خمسين عامًا:310.
(10) الممتع في التَّصريف:2/461.
(11) الهمزة في الإملاء العربيّ المشكلة والحلّ:38-39.
(12) انظر: أدب الكاتب:199.
(13) انظر: كتاب الإملاء:88. (المنهج المقرَّر على مدارس وزارة التَّربية العراقيَّة).
(14) انظر: قواعد الإملاء:13. (الصَّادر عن مجمع اللُّغة العربيَّة بدمشق).
(15) انظر: دليل توحيد ضوابط الرَّسم الإملائيّ للكتابة العربيَّة:29. (المنهج الشَّامل الموحَّد لمراحل التَّعليم العام في الدُّول الأعضاء بمكتب التَّربية العربيّ لدول الخليج، والصَّادر عن المركز العربيّ للبحوث التَّربويَّة لدول الخليج بالكويت).
(16) الهمزة في الإملاء العربيّ المشكلة والحلّ:18.
(17) (18) (19) انظر: قاعدة الأقوى لكلِّ الهمزات:7، 1-2، 1.
** **
- صفاء صابر مجيد البياتي