يحدث أن تعجب إحداهن بفن الشاعر أو إلقائه أو حضوره، فيخيل لها أنها معجبة به، فتبدي له ما تظن أنه يدغدغ مشاعره، لكنه يكون أعقل من أن تنطلي عليه حيلتها أو عبثها، فيعتذر لها بأن سنه لم تعد تسمح له باللهو والتصابي، وأنه غصن ذوى وروضة جفت، وينصحها بالبحث عن نظير لها سناً وعقلاً.
ومن هذا النوع محاورات الدكتور غازي القصيبي مع الصبايا، فعلى الرغم من كثرة محاوراته معهن ورغبتهن في العبث بمشاعره؛ إلا أنه لا يجاريهن، لأنه يؤمن إيماناً عميقاً بأن هذا اللون من الحب أو الغزل ليس إلا عبثاً.
في قصيدة (قطرة من مطر) التي كتبها في الخامسة والأربعين من عمره؛ (يدل على ذلك تأريخ القصيدة (1985) تتعرَّض له فتاة، فيطريها تودداً لها أو مجاملة:
يا أنت يا غزالة
مصنوعة من خفر
فاتنة.. كوردة
حاضرة كعنبر
آمرة.. كهمسة
ناهية كخنجر
مثيرة.. كموعد
مغرية كسكر
يا أنت من ألقاك في الد
رب وألقى عمري
صبية.. مشغوفة
بكهلها المندثر
لكنه بعد ذلك يوجه عنايتها لأن تتأمل صورته جيداً، فقد أقلعت به الأربعون ودنت الخمسون، ويطلب منها أن ترجو السنين أن تتمهل، فلدى الشاعر أعمال لم تنجز من كتب وقصص وأشعار:
الأربعون أقلعتْ
كزورقٍ منكسر
وهذه الخمسون تد
نو كالخريف الحذر
قولي لها تمهلي
ببابه وانتظري
قولي لها لديه بعدُ كتُب لم تنشر
قصائدٌ ما نُظمتْ
عن جُزر لم تعبر
وقصص ما كتبت
عن الحيارى البشر
وموعد لما يحن
من الرياح الأُخر
وبعد عام واحد في عام 1986 يلتقي بعشرينية فيلمح في نظرتها الهزء من اكتئابه، فيقول لها معاتباً:
أغرك أنني أحيا غروبي
وأنك وردة الفجر الجموح
وأن حسان أيامي ورائي
وأنك طفلة الأفق الفسيح
وأنك والطموح على وفاق
وأني بِتُّ يلعنني طموحي
ويختم القصيدة معلناً عن كبريائه وإبائه:
أحب بكبرياءٍ لا تبالي
عناق الغيد أو لثم الضريح
وأعشق بالإباء فإن شكا لي
وأدتُ العشق في موت مريح
وصالك إن مننتِ به صدود
فهيا إن بدا لك أو فروحي
وتتكرر القصة بعد زمن مع فتاة عشرينية، من إحدى المعجبات، وقد بلغ الستين، فكان أكثر رزانة ورجحان عقل من أن تنطلي عليه خداع الصبية:
أوّاهِ.. يا نسيمْ
هل تَعرفين ما يعاني المرءُ في السِتينْ؟
هل تعرفين كيف تبرد الدمَاء في العروق؟
وكيف يصبح الشروقْ
كطعنة السِّكين؟
هل تعرفين غُربة الشاعر
في الكهولةْ؟
وحرقة القصائد العجفاءْ؟
أتعرفين معنى أن تمرَ امرأة جميلةْ
ونظرة كحيلةْ
وبسمة أحلى من الطفولةْ
فلا تثير عنده
سوى الخَوْاء؟
هل تعرفين معنى أن يخافَ شاعر
من النساء؟
ثم يكمل صراحته المعهودة، معبراً عن ألمه حين تعلن له عن حبها لشِعره، وتقرأ في الوقت نفسه لحبيبها شيئاً مما نظمه الشاعر المسكين:
ما تفعل العشرون بالستينِ..
والستونَ بالعشرينْ؟
لا شيء يا نسيمْ
يوجع مثل أن تقول امرأةٌ جميلة
لشاعر:
«أحب شِعركَ الجميلْ»!
وقلبها..
يحوم حول رجل
سواهْ
تعشقهُ.. تهواه
تنشدهُ قصائد الحنينْ
من نَظْمِ هذا الشاعرِ المسكينْ
وفي مطلع قصيدته - وهو في الستين - غانية تغويه، يصفها بالشيطانة لكنها (أحلى الشياطين)، ثم يحدث نفسه مذكرا إياها بكهولته وصورته التي لم تفلح المعاجين في إعادة نضارتها، وسرعان ما يرد على نفسه بأنه يضعف أمام المغريات مثل نغمة عود أو لحظ خريدة. يقول:
برزتِ في عامي الستين تغويني
يا نشوة العيش يا أحلى الشياطين
إذا شكوت من الإعياء أيقظني
شوق إلى الشوق يدعوني فيحييني
وإن تململت من ضعفي أطلَّ هوى
غض الشباب إلى العشرين يلويني
هذي المغامِرةُ الحسناء أعشقها
برغم ما أغمدت بي من سكاكيني
* * *
يا أيها الكهل أزعجت الورى أفلا
أغمضت جفنك من حينٍ إلى حين
يا أيها الكهل أيام الصبا هربت
هل كنت تحسبها بعض المساجين
يا أيها الكهل في المرآة لو نظرت
عيناكَ أبصرتَ إخفاق المعاجين
يا أيها الكهل لا تحلم بفاتنةٍ
حلم الصحارى بحقلٍ من رياحينِ
هيهات ما زال صوت العود يطربني
ولا يزال جمال الكون يغريني
ولا يزال فؤادي في طفولته
متيماً بعيون الخرّد العِين
وفي قصيدته الوداعية (حديقة الغروب) يذكر إحدى المعجبات بأن تتركه وتبحث عنه في كتبه:
ماذا تريدين مني؟! إنَّني شَبَحٌ
يهيمُ ما بين أغلالٍ وأسوارِ
هذي حديقة عمري في الغروب كما
رأيتِ مرعى خريفٍ جائعٍ ضارِ
الطيرُ هَاجَرَ والأغصانُ شاحبةٌ
والوردُ أطرقَ يبكي عهد آذارِ
لا تتبعيني دعيني واقرئي كتبي
فبين أوراقِها تلقاكِ أخباري
** **
- سعد عبد الله الغريبي