محمد هليل الرويلي:
انطلقت في دراساتها الأخيرة نحو البحث عن سلالة النص وفق مفهوم (الحوارية) عند باختين، القائمة - كما تذكر - على نوع من المعرفة النص مرتبط بنظام القول الاجتماعي والأيديولوجي، مع الاحتفاظ بخصوصياته وتفرده بعناصره، فالنص الأدبي خطاب لغوي تحكمه شبكة علاقات لغوية داخلية لكن ليس بمعزل عن سياقه الخارجي والنصوص مرتبطة بسياقاتها، حيث إنها تُقام وجودياً مع نصوص أخرى، وإعادة تأويلها يتم في سياق جديد.
للوقوف على هذه الدراسة النقدية والإنتاجية النصية، تواصلت الثقافية مع الناقدة الدكتورة فايزة أحمد الحربي لمعرفة أثر ونتائج الدراسة خصوصًا على شعرنا السعودي وهوية اللغة وانعكاس ذلك على قضايانا والتجديد وأجابت قائلة: نعم إعادة تأويلها يتم في سياق جديد وحوار لا حدود له. والوقوف أيضاً على ما يُسمى بـ(الإنتاجية النصية)، كون الإنسان منبع للنصوص وصانعه، وأينما يكون النص يوجد الموضوع الذي تدور حوله مسائل الواقع للفكر الإنساني وخبراته سواء كان مكتوباً أم شفهياً.
كون الإنسان في منبع للنصوص وصانعه، وأينما يكون النص يوجد الموضوع الذي تدور حوله مسائل الواقع للفكر الإنساني وخبراته سواء كان مكتوباً أم شفهياً.
هذه المفاهيم شكلت لي شغفاً للبحث حوله في شعرنا السعودي خاصةً وهوية لغته الشعرية حيث يمثّل قيمة إنسانية ومرجعية ثقافية تميز بحضوره الفعلي لغةً وفكراً في كل ما يتعلّق بقضاياه، فقدم تجربته الجمالية من منبع ذاكرته الجمعية وتاريخه العريق، ومعجمه الشعري الخاص به الممثل لهويته الوطنية المتجذرة من الأرض، بتوظيف المفردات الدالة على ظاهرة البداوة في ثنايا القصيدة السعودية، وتكثيف لغة الصحراء وثيماتها المتعددة واللجوء إليها في النص الشعري، مما أظهر حقيقةً هوية الشاعر وانتمائه للوطن بكل تكويناته. ولا يخلو ديوان الشعر السعودي من الألفاظ المستمدة من بيئة كل شاعر التي تعكس منطقته وتراثها من: أمثال وغناء وحكايات؛ ليأتي هذا الاستخدام مؤكداً على هوية الانتماء، كما احتوى لغة الفلكلور والموروث الشعبي المؤلف من اللهجة العامية الشعبية الدارجة، المعبر عن تراث المجتمع الشعبي وقيمه ومفرداته المستمدة من واقع الحياة البدوية.
أضف لما سبق - تقول الدكتورة فايزة - أنّ الشاعر السعودي مسكون بالتجديد، فاستطاع وضع القصيدة أمام محك التجربة الشعرية الحديثة لمتوافقة مع العصر، وأسس لأن تكون جديدة مغايرة عن المعهود بالكشف عن المخبوء الشعري والمكنون من مفردات الحياة اليومية.
كما حضرت في دراساتي المصطلحات العلمية كـ(الأنثروبولوجيا) في سياق تأويل النص ومقاربته نقديًا لتمنحه أبعادًا أخرى تبرهن على علاقة الإنسان بالكون وما حوله، وأن الأديب كائن اجتماعي متوارث لمعتقداته في أعماق وأغوار عقله اللا واعي والواعي منه؛ لتأتي نصوصه شاهدة على ذلك العمق كما جاءت قصائد الشاعر أحمد الصالح بأبعادها الأنثروبولوجية ودلالاتها المكانية والغيبية والمجتمعية منها طبقًا لما كشفت عنه النصوص السابقة. شكلت لديه هوية الانتماء للوطن والأصالة للموروث، والعودة لعبق الجذور مع الاستجابة للواقع المعاصر في كل قضاياه فبدت ثيمة (الوطن) الأكثر تكرارًا في ديوانه الشعري (عيناك يتجلى فيهما الوطن)؛ مستعينًا بالرموز الأسطورية الدالة على ذلك بحضور المرأة كمعادل موضوعي للوطن، كما بدا المكان في شعره مسكونًا بالمخيلة والذاكرة الجمعية لملامح البيئة الطبيعية، والعودة للبيئة الصحراوية الرحبة صورة من صور الانتماء للوطن، ومنطلقًا من وعيه بالمعطيات الكونية الحضارية، لاسيما أنه ينتمي لمكون ثقافي منبعه الجزيرة العربية بما مرّ بها من عدة حضارات ومن ثمَّ انعكس ذلك على التركيبة الثقافية لديه، فارتبط بأصالة جذوره وعمقها، مما يؤكد علاقة الشاعر ببيئته وانتمائه المتجذر بها، كما أنّه استثار الانتماء للمكان من خلال نظيره التاريخي الغائب عن الذهن حضورًاً والموجود فعلًا في العمق التاريخي.
وأضافت الناقدة الحربي: للشاعر السعودي دوره في استلهام التراث وخدمته من جهة، وحرصه على انتقاء الشخصية الأدبية التي تصلح أن يسقط عليها مرئياته، والقادرة على تأويل وتفسير القضية المتبناة من خلال السرد الشعري وفق عناصر البناء الدرامي، فالقصيبي مثلا استدعى الشاعر المخضرم سحيم عبد بني الحسحاس، الذي تذكر الروايات التاريخية أن عشيرة بني الحسحاس قتلته حرقاً وكان ذلك قرابة سنة 35 للهجرة؛ لتغزله في نسائهم. ولعل الشاعر انتقى حكاية سحيم لتداخل واقعيتها مع عناصر الحكاية والأسطورة، مع الدلالات المتضادة التي احتوت النص الحكائي :العشق/ البغض، الموت /الحياة، العبودية /الحرية، وكذلك الانتقام المتضاد: انتقام العبد من القبيلة التي ينتسب إليها بعشق نسائها يرمي بهذا الانتقام للحرية المسلوبة منه،
وقد تميزت قصيدة سحيم المطولة ببنائها الدرامي المنسجم مع موضوعها، المتحكم في مجريات أحداثها الصوت المنفرد الظاهر والشخصية الواحدة المستدعاة من التراث الأدبي والتاريخي الدال على مقدرة الشاعر القصيبي في انتقاء الشخصية الأدبية التي يتماهى لتعكس تصوراته ورؤاه الفكرية والإنسانية.