الإنسان كائن تاريخي، وهو امتداد لسردية تاريخية حددت هويته واتجاهاته وثقافته وعاداته وتقاليده؛ إذ لا يعيش الإنسان حاضره بمعزل عن السردية التاريخية التي شكلت توجهاته على نحو ما، ومن أجل ذلك كان الجدل حول التاريخ وتعدد قراءاته جدلًا يمس الهوية بشكل أو بآخر؛ فالمجتمعات - على حد تعبير ريكور - تفهم أنفسها عبر القصص التي ترويها عنها.
حضر التاريخ بثقله روائيًا، وأمد الرواية بمادة منجزة خدمت الرواية. ومن جهة أخرى أسهمت الرواية في استدعاء التاريخ وجعله سائغًا بين الناس؛ نظرًا للمجال الرحب الذي يتيح للروائي تصوير المشهد التاريخي وما وراءه بعيدًا عن المسؤولية العلمية المقيدة للمؤرِّخ، بالإضافة إلى الطابع القصصي الذي يستميل القراء. فكانت المحصلة تداول التاريخ اجتماعيًا، والإفادة من قدرته على التأثير سواء تعليمًا كما عند الرواد، أو إبداعيًا كما في الرواية التاريخية الجديدة.
وتدرجت علاقة الرواية بالتاريخ من الارتهان للخطاب التاريخي إلى إعادة قراءة التاريخ من وجهات نظر متعددة، فكان أن أعادت الرواية - بقدرتها على توليد الإبداع - إنتاج التاريخ بزوايا متعدّدة سواء بما يتوافق مع الراهن، أو مع وجهة نظر الروائي، أو من وجهة نظر شخصياته الورقية؛ فتوسعت قراءات التاريخ، وأضحى مشهد التاريخ حيًّا نابضًّا عاكسًا لتفاصيل الحياة ومشاعر الناس بمختلف أطيافهم.
ساوق هذا تقدم نقدي نظري أسند للرواية دورًا جماليًا ومعرفيًا، وأخرج الرواية من ربقة التاريخ إلى حيز أوسع جعل التعامل مع النص التاريخي تعاملًا أكثر حيوية وأكثر تعقيدًا، ومن هنا أعيدت الوجاهة للرواية التاريخية، وشهد السياق الأدبي مؤخرًا عودة تختلف عمَّا كانت عليه الرواية التاريخية عند الرواد، وارتفع تطلع المتلقي العربي للرواية التاريخية مجاوزًا النمط القديم في تقديم الحدث أو الشخصية التاريخية.
وفي الجانب المحلي لم تحضر الرواية السعودية التاريخية بالكثافة الموازية لكم الإصدارات الروائية، فقد ضلت تسير بتؤدة، وفي مفارق مختلفة يمكن إجمالها على النحو التالي:
- روايات تناولت التاريخ القديم، كالتاريخ الإسلامي بما فيه من شخصيات بارزة.
- روايات تناولت التاريخ الشعبي وغلب عليها البعد الاجتماعي بعيدًا عن الأحداث التاريخية.
- روايات تناولت الشخصية السياسية السعودية، وانحصرت في شخصية المؤسس - رحمه الله.
- روايات اعتمدت على التخييل التاريخي، فأقامت حكايتها على فضاء تاريخي إسلامي متخيل.
- روايات اعتمدت على التخييل الشعبي مستمدة قصتها من المخيال الشعبي القريب.
وفي الجانب الفني تفاوتت جودة الروايات السعودية ما بين روايات تسمق غاية السموق وتدرج التاريخ في جمالياتها، وأخرى تقليدية تنزع إلى الجانب التعلمي الإصلاحي وتقوم على إعادة النص التاريخي دون إضافات إبداعية تعيد توليد التاريخ، ولعل لحداثة التجربة السعودية في الرواية التاريخية والانصراف نحو القضايا الاجتماعية وحضور الرواية كوسيط ثقافي للجدل المعرفي والثقافي أخَّر الاستفادة من التاريخ لا سيما التراث الشعبي؛ فعلى الرغم مما يتمتع به من ثراء في موضوعاته وشخصياته وفضائه ومروياته الشعبية من أمثال وحكم وشعر لم يشغل حيزًا كبيرًا في الرواية التاريخية السعودية وظل بعيدًا عن أعين الروائيين، منتظرًا من يميط اللثام عنه، مستفيدًا مما فيه ومفيدًا كذلك المجتمع والتراث على حد سواء؛ إذ ما من شك أن الرواية وسيلة ناجعة للتأثير في المجتمعات، وحين تتخذ من التاريخ موضوعًا لها فهي تعيد تداوله اجتماعيًا، وتخرجه من مستودع المؤرِّخ إلى فضاء الرواية الرحب.
ولئن أمد التاريخ الإسلامي الرواية العربية بمادة منجزة في حداثة عهدها أفاد منها الروائيون العرب والسعوديون، فإن في التراث الشعبي سرديات ومرويات تقوم على بنية متكاملة تنتظر من يملأ فراغاتها محليًا ويعيد اكتشافها ومن ثم إنتاجها بالطريقة الحديثة التي تملأ تعطش المتلقي في المملكة وتوازي أفق توقعه، وتعرفه بتاريخيه وبها - أعني بالرواية التاريخية الشعبية - يشعر بروح التاريخ؛ إذ هو ألصق به من التاريخ البعيد، علاوة على أن ثمة ضعفًا كما وكيفًا في الرواية التاريخية الشعبية.
وعلى الإجمال، فإن التاريخ في الرواية السعودية أقل حضورًا منه عربيًا لا سيما التاريخ الشعبي الذي لن ينهض روائيًا إلا بسواعد كتاب تشرّبوا ثقافته، وشكلوا امتدادًا وجوديًا لأصحابه، وبهم يمكن أن تعوّل على إنتاج روايات تاريخية تعكس الثقافة الشعبية على غرار ما نجده عند نجيب محفوظ الذي تميز بقدرته على تمثيل الطابع الشعبي في مصر.
** **
- د. فيصل بن صالح السرحان