قبل سنوات عدةٍ كلّفني وكيلُ جامعة الإمام آنذاك الشيخُ الفاضل الأستاذ الدكتور صالح آل علي بزيارة معهد الاستشراق التابع لجامعة الإمام آنذاك في المدينة المنورة لتقديم تقريرٍ عنه.. فكان كما أراد. وكان من ضمنِ ما قدّمته لفضيلته في تقريري عن ذلك المعهد أن الدراسات التي كان يكتبُها بها دارسو المعهد تصبّ كلها في جانب الردّ والدفاع.. واقترحتُ حينذاك في تقريري أن يتم توسيع النظر للاستفادة من مشروعات الاستشراق ولا نسخّر كل قوانا للردّ فقط..
ثم من بعد هذا رأيت في كثير مما أحضره من مناقشات أو ندوات أو مؤتمرات نموذجاً ونماذجَ من هذه الفكرة الجدلية المتوثبة للردّ والنقض وتكراراً لها.
وأذكر في هذا السياق مناقشةً علميةً حدثت بيني وبين أحد الأحبة الزملاء في شأن علميّ محضٍ، فختم المناقشة مبتسماً بقوله: إنه لا يستغرب منك هذا؛ فأنت من تلامذة المستشرقين! فبادرته قائلاً: نعم، ولكني أيضاً من تلامذة ابن عثيمين! وهكذا ترى أن مصطلح الاستشراق عموماً قد أصبح لفظاً سلبي المعنى سيئ الصيت غالباً.
ومع أهمية الردّ على المستشرقين في أوهامهم وأغلاطهم في كل المجالات التي ارتادوها، يبقى الانصراف فقط إلى هذا الجانب الجدلي مع المستشرقين سبباً يجعلنا عمياناً عن أهمية دراساتهم ومشروعاتهم النافعة، وإنتاجهم المتعلق بالتراث العلمي والأدبي للعرب والمسلمين.
والإنتاج الاستشراقي جدير بالمتابعة والترجمة والتعليق والدرس.. ومع كل ما يمكن توجيهه من نقدٍ لدراساتهم فإن لهؤلاء القوم فضائل ومزايا، منها: سبقُهم إلى تحقيق كثيرٍ من أمهات التراث العربي كتحقيق الهولندي دي خويه (ت 1909 م) لتاريخ ابن جرير الطبري وتحقيق الألماني ساخاو (ت 1930 م) للطبقات الكبرى لابن سعد وتحقيق فلوجل (ت 1870م) لفهرست النديم، وتحقيق الإنجليزي تشارلز ليال (ت 1920 م) المبكر للدواوين الشعرية والمفضليات.. ومنها كشفهم عن المخطوطات العربية ومنهجية فهرستها كما فعل البروسي آلفارد (ت 1909 م).. ومنها فهرستهم لكتب السنة الشريفة كما فعل الهولندي فنسنك (ت 1939 م).. وتكملة المعاجم العربية للهولندي دوزي (ت 1883 م) ومنها فهرستهم للتراث العربي، وجمع شتاته كما نرى في مصنفات شاتيشنايدر (ت 1907 م) وفي كتاب تاريخ الأدب العربي للعلامة الألماني بروكلمان (ت 1956 م) ومنها كشفهم عن جوانب جديدة من التراث الجغرافي البلداني للمسلمين كما فعل كراتشكوفسكي الروسي (ت 1951 م)، ومنها كشفهم عن أهمية دور المسلمين في الحضارة العالمية في الجوانب العلمية التطبيقية مما لا يزال الباحثون العرب عيالاً عليه في أكثر كتاباتهم كما فعل نلينو الإيطالي (ت 1938 م) في علم الفلك، والألماني فيدمان (1937 م) في علم الرياضيات والتشيكي كراوس (ت 1945 م) في الكيمياء، وكشفهم عن الأثر الفلسفي للعرب والمسلمين في أوروبا، كما فعل الفرنسي رينان (ت 1892 م) ومنها كشفهم عن كنوزٍ نادرةٍ من المعلومات تتعلق بالمسلمين وتاريخهم في أواسط آسيا مثلاً كما فعل الروسي بارتولد (ت 1930 م)، وفي أرجاء بعيدة عن العالم الناطق باللغة العربية.. وغيرها كثيرٌ وكثيرٌ جداً يطولُ ذكره.
وهناك مسألةٌ ربما لا يعرفها من هو بعيدٌ عن هذا المجال، وهي أن بعض دراسات المستشرقين كانت كشوفاً انطلقت منها لاحقاً دراساتٌ عربيةٌ عولت واعتمدت عليها. وحسبي أن أذكر هنا أعمال الدكتور عبد الرحمن بدوي (ت 2002 م) وهو أعظم عقلٍ عربيّ مؤرخ للفلسفة ومحقق للنصوص الفلسفية العربية في القرن الماضي؛ فقد اعتمد بصورةٍ كبيرةٍ جداً على جهود المستشرقين التي جعلها بوصلةً لأعماله وإنتاجه الضخم الذي ربما تعجز عنه مجامع علمية اليوم. وتاريخ التراث العربي للراحل العظيم فؤاد سزكين (ت 2018 م) اتكأ وبنى على عمل بروكلمان السابق وصحح أخطاءه. ولقد رأيت كثيراً من الكتب التراثية أعيد طبعها في العالم العربي، وسلخت منها مقدماتُ المستشرقين وادعى الناشر أنها نشرٌ جديد!.
واليوم يجب أن نبدأ بمشروعٍ جديدٍ يقوم على منهجٍ جديد في تناول أعمال المستشرقين الجادة لتحقيق الاستفادة منها بمنهجٍ جديدٍ، خاصة أن الاستشراق بصورته الأولى قريبٌ من الأفول.. وما أنتجه الاستشراقُ من حسنٍ ورديءٍ يهمنا بالدرجة الأولى أكثر من غيرنا. ومن أهم مبادئ هذا المشروع أن نضع رؤية شاملة تتجاوز المشروع الاستشرقي من الناحية العلمية، وتبني عليه، وتهتم بمنظومته الفكرية وأسُسِه العلمية التي بني عليها، ويضع في أهدافه توظيف هذا التراث الاستشراقي لخدمة علومنا ولغتنا وأمتنا بطريقةٍ علميةٍ، بدلاً من تكرار نبذه ونقده نقداً عاطفياً لا يقوم على منهجٍ صحيحٍ.
** **
- د. أحمد بن محمد الدبيان
arabic.philo@gmail.com