د.محمد بن عبدالرحمن البشر
الذكاء الفطري، والقدرة على موازنة الأمور موهبة قد يملكها بعض البشر، ويستفيد منها في تعاملاته مع الآخرين لكنها ليست بالضرورة تكون مفيدة، إذا لم يكن هناك قدر من عون الله وتوفيقه، وقد رسم ذلك الواقع علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حيث قال:
إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى
فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ
لقد برز هذا البيت أمام ناظري، وأنا أقرأ عن تلك الحملة الحربية التي شنها الآشوريون على مصر في سنة 671 قبل الميلاد، بقيادة ملكهم «إزارهادون» وكانت مصر في ذلك الوقت تحكم من قبل رجل ينتمي لأسرة كوشيه نوبية من السودان، اسمه الفرعون طاهركا، إن كان لقب الفرعون يطلق حقاً على كل حاكم لها في ذلك الوقت، وهو ما لم تثبته الآثار المصرية، لقد قرر الحاكم الأشوري سابق الذكر أن يزحف بعسكره إلى مصر، مستخدماً التمويه في خططه العسكرية، فسلك طريق الصحراء بدلاً من الساحل، وكان مصيباً فيما فعل، فقد كان عنصر المفاجأة حاسماً في المعركة.
وقبل أن يذهب إلى هناك كان قد زار معبداً في حران، ووضع تاجين على رأسه وجرس أحدهما وحيتان، إشارة إلى تاج ملوك مصر، أي أنه سيكون حاكماً لأعظم حضارتين في ذلك الزمان، وقد انتابه القلق لأن غزو مصر ليس أمراً هيناً، في بلد الحضارة رغم ما عانته في ذلك الوقت من فرقة بين الشمال والجنوب، وفي تلك السنة حدث كسوف للشمس، فرآه الحاكم الآشوري فألاً سيئاً، لاسيما أن الشمس لها قدسية لدى حضارة الرافدية، ويبدو أن الفأل السيئ بسبب كسوف الشمس قد سرى في نفسه وأنفس الجند، وكان لا بد أن يهدئ من روعهم باختلاق بعض الأكاذيب، والمخارج والتفسيرات.
سار في صحراء سيناء ووصف تلك الفيافي الرهيبة الواسعة، والثعابين ذات الرأسين، والكائنات الخضراء الطائرة، التي كان عليه محاربتها والتغلب عليها، ويذكر أنه تلقى العون من المأكل والمشرب من القبائل العربية المحلية.
ربما أن مصر كانت قادرة بقيادة قائدها الفرعون «طاهركا» على رد الآشوريين على أعقابهم، لكن عنصر المفاجأة لم يترك مجالاً لذلك، فكان النصر حليف الآشوريين وجرح الفرعون طاهركا خمس مرات، وسار في عجل نحو الجنوب، تاركاً مملكته وأمواله للغزاة، كما ترك أسرته لتقع في الأسر.
لقد عاشت مصر ثماني سنوات من عام 671 حتى 663 قبل الميلاد أياماً عجاف ووصفتها لوحاتهم بأنها فترة حمى البلاد الأجنبية أو «زمن الشؤم» وهنا بيت القصيد، فقد وجد المصريون الساكنون في الشمال أنفسهم بين الآشوريين الغازاة، والفرعون الكوشي، القابع في الجنوب وبالتحديد في مدينة طيبة التي هرب إليها، وكان عليهم أن يكونوا مثل قسيس قرية يرى الذي يصلح لكل العصور ومتوافق مع كل الحكام.
لقد حاول الآشوريون استمالة الحكام المحليين فعينوا «نيخو» وهو ابن الفرعون «بوكشووريس» الذي قطع الكوشيين رأسه فيما مضى، ليحتلوا شمال مصر، لكن ما لبث هذا المسكين أن ينعم بالمنصب الذي حباه له الآشوريون، حتى سمع بمحافل الكوشيين قادمة إليه لتستعيد مجدها، فرأى وربما يكون مصيباً أنه من الحكمة الانضمام إليهم، وطرد الآشوريين، ففعل وتم طردهم، لكن ما لبث الآشوريون أن عادوا إلى مصر غزاة في عام 666 قبل الميلاد، فهرب الفرعون طاهركا إلى الجنوب مرة أخرى، وترك حليفه سيئ الحظ «نيخو» ليلقى مصيره بنفسه، لكنه استطاع إقناع الآشوريين أن وقوفه السابق مع الكوشيين كان رغماً عنه، وعجزه وأن ولاءه ما زال للآشوريين، فقبلوا عذره، ليستفيدوا أيضاً من مكانته في مجتمع الشمال المصري نظراً لتاريخ جده وأسرته ذات الأصول الليبية من قبيلة اللابو، ووضعوه كما كان حاكماً محلياً للشمال.
حاول هذا البائس الجلوس على السور بين القوتين كما يقول المثل، لكن ذلك قد نجح فيما مضى، غير أن الأحداث الجسام، ليست في تقدير الأنام، فبعد وفاة طاهركا بطل الهروب مرتين، جاء بعده حاكم جديد، بعقلية حربية جديدة، وجمع جنده، وتوجه شمالاً، فاختار سيئ الحظ «نيخو» بين الخنوع تحت الكوشيين وطاعتهم، أو الصمود في تمثيله للآشوريين، ومحاربة الكوشيين، ويبدو أنه صمد مع الآشوريين، فهزمه الكوشيون وضربوا عنقه، وهكذا فإن الإنسان مهما حباه الله من مهارة في المراوغة، لا يمكنه تحقيق مراده إلا بعون من الله القادر على تبديل الأحوال كلمح البصر، وهذا ما حدث لهذا البائس في فترة وجيزة.
فسبحان الله مسير ما خلق لحكمة بالغة.