الهادي التليلي
الكتابة على جدار الذاكرة لا يمكن أن تكون إلا بالمعنى هذا المعنى الذي به يعيش الإنسان ومن خلاله يشعر بمتعة الوجود تلك هي ثقافة الحياة التي تقدمها لك الأماكن المسكونة بالدلالة والتي بوجودك فيها تكتب على جدار ذاكرتك ما لذ وطاب من بذخ الجمال وفتنته, لذلك دائماً كنت أختار قضاء مساء الخميس الجميل خارج زحمة العالم وضجيج الأشياء وداخل أماكن تاريخية يعد مركز الملك عبد العزيز التاريخي أحد مفرداتها فهذا المركز العظيم الذي يعد وجهة راقية جداً للسياحة الثقافية أجد نفسي في تفاصيله المحاذية بحكم أوقات دوام مقاره الرسمية لبعضها.
وفي الحقيقة كنت أنا وأسرتي الصغيرة نحب الجلوس قليلاً أمام المتحف في مشهد يغطيه البساط الأخضر الذي يتخلله صوت المياه التي تترقق لتصل إلى بركة تزينها مساقط مياه في شكل يشي بالمطر الدائم هذا المشهد لا يقف عند التجول في تفاصيل المكان والنظر إلى السيارات التاريخية وجمالها في المتحف من خلال الزجاج الخارجي ولا ينتهي بوصف واحة النخيل وحدائق المركز التاريخي التي من أهمها حديقة الجسر والمدى والوادي واليمامة والحرس والسور وحديقة الوطن.
حديقة الوطن التي ننتظر قرب غروب الشمس لننتقل إليها مشيا حيث تبعد أقل من 500 متر عن المكان السحري الذي زاده الماء وخريره سحراً على سحر تليه مساحة شاسعة شمال قصر المربع التاريخي حيث تحملك الطفولة المنتشرة في فرحة إلى طفولتك فتقول نعما هي المملكة حاضنة أمن وسكينة لطفولة أبنائها حامية لذاكرتها وملهمة بالعمق التاريخي للتفاصيل الخارجية لقصر المربع التاريخي.
حديقة الوطن التي نصلها من الباب الخلفي وتحتاج للوصول إليها عبور طريق رخامية يهز جمالها مرمر القلب المتعشق للجمال وتعبر الطريق إلى هذا الباب المحاذي لواحة نخيل غاية في الجمال في لحظة تيه في المكان الذي يشبع العين الشرهة التي ترى أحياناً ما لا يراه غيرها.
عند البوابة تلبس ابنتاي أساور حجز الألعاب وتجدان متعة في ذلك إيذاناً بالبدء في مهرجان الفرح فهذه الحديقة الجميلة التي يعد برج الخزان منارتها تبلغ مساحتها 28600 متر مربع وبالإضافة إلى الألعاب الترفيهية والمحال والمطاعم ومساقط المياه والشاليهات التراثية تجد فيها حديقة مائية اختزلت أهم المعالم الحضارية والتاريخية لمختلف مناطق المملكة فكأنك تجوب المملكة وأنت على قارب صغير تتنقل من معلم إلى آخر هذه الحديقة المائية تكون دائماً المحطة الأولى لنا قبل أن نجوب الألعاب المتوزعة هنا وهناك ولعل المساحة المعدة للرسم والألعاب البيئية تفرض نفسها أيضاً في مشهد المتعة التي تنتظرها العائلة طوال أسبوع من العمل والدراسة كل واهتمامه.
في الحقيقة المطاعم والمقاهي المتوزعة أيضاً تقترب أكثر من المحلات التجارية التي تحيط ببرج الخزان هذا البرج الحكاية المنتصب شامخًا شاهدًا على قوة الإنجاز والمحاط بقنوات مياه ومساقط مائية تعطر الجو وتعطي المكان مساحة من الإمتاع والمؤانسة تجعلك خارج الكوكب.
برج الخزان الذي كنت كلما عبرت أو مررت بشارع الخزان و أراه منتصباً كما الزهرة المعانقة لزرقة السماء أو كما المجسم الذي يفصح عن فنانه قبل أن تراه كان بالنسبة لي يمثل سؤالاً لا يحتاج فقط إلى إجابة بل إلى اكتشاف وعندما تقترب منه تجد قصة نجاح الإنجاز مدونة بالحيثيات والأرقام وتحتاج إلى تدوين بعض التفاصيل لتعيد شرحها لأبنائك والأجيال القادمة.
هذا المعلم الذي أنجز سنة 1971 بتصميم من المهندس السويدي ساوني لينستروم يعد من الأبراج النادرة في العالم التي بنيت من فوق إلى أسفل وتلك حكمة الإبداع علما بأنه سبق أن أنجز في مدينة أوروم السويدية مجسماً بنفس الطريقة فكانت قصة نجاح متوارثة وفتحاً معمارياً يجمع التنمية الزراعية بالترفيه فمن حيث التنمية الزراعية هو عبارة عن خزانين كانت ساعتها الرياض في أمس الحاجة إليهما مع ارتفاع الحاجة والطلب على المياه في المنطقة التي كانت الواجهة التأسيسية للرياض الحديثة فكانت الأسباب العلمية والاقتصادية متآزرة في تحديد نقطة مكان تشييد البرج بالتدقيق حيث يتم جلب المياه من أحياء الملز والمنفوحة والشميسي. والبرج يحتوي على خزانين الأول سعته 12 متراً مكعباً ويصل أعلى منسوب للمياه إلى 51 متراً علواً عن الأرض والثاني 350 متراً مكعباً للطوارئ يستخدم في أوقات الذروة وارتفاع الطلب على الماء.
إرادة المملكة وجهود إمارة الرياض التي كان الملك سلمان بن عبد العزيز أميرها مع عبقرية المهندس السويدي ساوني لينسروم حيث اختار أن يبني البرج من أعلى أي من الرأس المخروطي العملاق إلى أسفل. وهنا السؤال يفرض نفسه على العقل المتأمل كيف يكون هذا ونحن ساعة التشييد نكون في 1971 حيث لم تكن الوسائل الحديثة والسقالات العملاقة كيف تم ذلك؟ فعلاً كان هذا السؤال الذي أجابت عنه توصيفة المشروع الموضوع على ذمة الزوار أسفل البرج ويقول بأنه في البدء تم صب الجزء المخروطي فوق سطح الأرض بعد الاختبار والطلاء ثم انطلقت عمليات الرفع التي دامت 4 أشهر كاملة بمعدل 60 سنتيمتراً يومياً و20 سنتيمتراً في كل مرحلة أي بعد أن تجف وتتماسك.
البرج فعلاً قصة نجاح معمارية بالنظر إلى ظروف ووسائل تلك المرحلة حيث وبلغة الأرقام احتاج في بنائه إلى 4500 متر مكعب من الخرسانة و32 رافعة هيدروليكية كبيرة تبلغ قوة كل واحدة 200 طن وكل ذلك على قاعدة من الخرسانة المسلحة التي تستند على طبقة صخرية من الأحجار الرملية والجيرية الصلبة مما يمكنها من تحمل برج بطول 61 متراً وجزئه المخروطي 21 متراً ومسافة العمق العمودي الأسطواني تحت الأرض 17 متراً والعمود الأسطواني بطول على 11 متراً كاملاً والرأس المخروطي بطول 54 متراً.
الرحلة إلى حديقة الوطن وزهرتها التشكيلية برج الخزان لم تنته بالوصول إليها بل يحملك الفضول إلى الصعود إلى المطعم العلوي بالرأس المخروطي عبر اختيار أحد المصعدين السريعين لمعايشة جمال الراهن مع استرجاع مشهد المنطقة لحظة تدشين البرج بعين من عاشوا تلك اللحظة حيث لم يكن ساعتها الامتداد العمراني بتلك الكثافة مما يسمح بتقصي نواحي الرؤية الطليقة على مدار الرياض الجميلة. الرؤية العلوية الجاذبة والجلسة التأملية في مكان هادئ ويعج بالمعاني في سردية عاكسة لمرحلة في الإنجاز كان حاضرنا ولا يزال وفياً لها كل هذا يجعلك فعلاً في لحظة غير عادية فيلتقي الحاضر بالماضي في لحظة عناق وتكامل. وتلك روعة العقل السعودي الراهن، يفي للهوية ويواكب العصر بخطى عملاقة.
حيث ترى البرج الذي أنشأته وزارة الزراعة التي هي الآن تحت مسمى وزارة البيئة والمياه والزراعة وكأنه بني بالأمس القريب وبرهانات تحققت وتكيفت مع متغيرات الراهن الاجتماعية والحضارية. العناية الفائقة بالبرج هي صون للذاكرة الجماعية لمنجزات التاريخ الحديث فالبرج الذي انتقل من الأسود والأبيض لونياً إلى الأبيض والأزرق السماوي واكب عصره كنافذة تنموية وترفيهية جاذبة وعكس إتمام المملكة بإرثها الثقافي والتنموي والحضاري ودعا الأجيال المتعاقبة للاطلاع على تاريخهم المنير الذي هو خير جواب على من لا يعرفون عمرانية المملكة وإبداعها.