تشكل الدراسات النظرية والتجريبية على مدن المعرفة ملامح مجال ناشئ متعدد التخصصات. أولاً، يبدو هذا المجال -حتى الآن- ليس فقط كابن صغير لهذا القرن الجديد، بل يبدو كفتى سريع النمو. وتشهد المصادر الهائلة للمعلومات المتاحة في هذا المجال وكذا وجود معظم عناصر التوجه المؤسسي إليه -كمجلات النشر المتخصصة، والشبكات والمجتمعات المتخصصة، والمؤتمرات المتخصصة- بهذا النمو الفتي.
ويقوم مركز تبادل معلومات مدن المعرفة بتجميع القوائم الخاصة بعدة مجالات منها: (1) قواميس المصطلحات الخاصة بالمجال، (2) مبادرات التنمية القائمة على المعرفة، (3) الجمعيات والمنظمات الدولية ذات الصلة، (4) أبعاد قيمة التنمية الحضرية القائمة على المعرفة، (5) التصنيفات، (6) الطبعات الخاصة، (7) الأدبيات، و(8) المراجع الإلكترونية ذات الصلة بمدن المعرفة والتنمية القائمة على المعرفة.
ثانياً، يمكن وصف مجال مدن المعرفة الناشئ على أنه مجال قبل نموذجي. وعلى الرغم من تنامي الاهتمام بمدن المعرفة بشكل متسارع، فإن المجال لا يزال يفتقر إلى الإجماع بشأن الأطر النظرية والمنهجية الملائمة. وثالثاً، فإن المجال الجديد يبني نفسه على تخصصات ناشئة وغير مألوفة. فبينما تعتبر التنمية القائمة على المعرفة نتاجاً للتقارب بين نظرية النمو الاقتصادي وإدارة المعرفة، فإن مدن المعرفة -كأحد فروع مجال التنمية القائمة على المعرفة- يمكن اعتبارها نتاجاً للتقارب بين الدراسات الحضرية والتخطيط وإدارة المعرفة. وهذه المجالات -كسائر المجالات الفرعية لإدارة المعرفة- تم تأسيسها على علوم المعرفة، كالتاريخ والإنسانيات والأحياء وعلم النفس والاقتصاد والعلوم السياسية وعلم الاجتماع، أما مدن المعرفة على وجه الخصوص، فإنها تستفيد أيضاً من علم الجغرافياً والعديد من علوم التقنية.
إن عدداً قليلاً من المفاهيم في العالم اليوم قد يستطيع بلورة ملامح فجر الألفية الجديدة بشكل أفضل من مجرد تحول الأقاليم والمدن إلى مجتمعات المعرفة. والآن فقط يمكن إدراك المغزى الحقيقي وراء التطور الحضري لسكان العالم، وفوق ذلك ارتقاء وتطور خبرة الحياة الحضرية في اقتصاديات عصر ما بعد الثورة الصناعية، ليبدو مجتمع القرن الحادي والعشرين مجتمعاً ما بعد صناعي تلوح مدينة المعرفة أفقه.
فمن ناحية يمكن اعتبار القرن الحادي والعشرين قرناً للمدن. وعلى الرغم من أن الهجرة الجماعية لسكان الريف إلى المدن قد بدأت مع الثورة الصناعية، فإن عملية الهجرة لا تزال مستمرة وإن كانت أقل بكثير مما كانت عليه في الماضي.
فمنذ قرنين من الزمان، لم يتعد سكان هذه المدن 0.5 % من الوجود الإنساني على الأرض. وحتى الثمانينيات من القرن العشرين، لم يتعد سكان المناطق الحضرية على مستوى العالم 30 % من إجمالي عدد السكان. أما الآن، فنسبة سكان المدن في العالم تتخطى 50 %، ومن المتوقع أن تصل إلى 75 % بحلول عام 2025، وقد تم الوصول إلى هذه النسبة بالفعل في معظم الدول المتقدمة.
ولذا يمكننا القول إن أكبر عميلة تحضر للجنس البشري -بعد 40 ألف سنة من ظهور هذا الجنس- تحدث الآن. إنه بحق ((قرن المدن))، حيث تسود ظاهرة الخبرة البشرية الحضرية كحقيقة واقعة للألفية الجديدة.
من ناحية أخرى، يمكن اعتبار القرن الحادي والعشرين ((قرناً للمعرفة))، أو ((قرناً للتعلم)). فبعد الحرب العالمية العالمية الثانية، تحول أكثر من 50 % من إجمالي الناتج المحلي لعدد متزايد من الدول الصناعية من التنمية المادية إلى التنمية القائمة على المعرفة.
وعلى الساحة الدولية، فقد أكدت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والبنك الدولي على الأهمية الحاسمة للاقتصاد القائم على المعرفة كحقيقة عالمية تم إثباتها بنهاية القرن الماضي.
وقد تنبأ كل من تايتشي ساكايا وبيتر دروكر -من بين آخرين- بمجيء الاقتصاد القائم على المعرفة في نهاية القرن الماضي، كأرضية لتأسيس مجتمع المعرفة. ووفقاً لما يرى ساكايا، فإننا بصدد تدشين عهد جديد: ((أرى أننا ندخل مرحلة جديدة من الحضارة، والتي تكون فيها القيمة المرتبطة بالمعرفة هي القوة الدافعة)). ولذا فنحن قد دخلنا بالفعل في ((قرن المعرفة)).