الهادي التليلي
عندما سُئل لي كوان بو مؤسس سنغافورة والذي عاش من 1923 إلى 2015 عن سر المعجزة التنموية في بلده الصغير أجاب بتواضعه المعهود في الحقيقة لا توجد معجزة، وكل ما في الأمر أنه أعاد للمعلم المكانة المجتمعية التي يستحقها مع جعل موارد الدولة في خدمة التعليم فحصلت النقلة وتطور البلد في قولته المأثورة «أظن أنني لم أقم بالمعجزة في سنغافورة أنا فقط قمت بواجبي فخصصت موارد الدولة للتعليم وغيرت مكانة المعلم من الطبقات الدنيا في المجتمع إلى المكان اللائق بهم وهم من صنعوا المعجزة التي يعيشها المواطنون الآن».
سنغافورة التي أصبحت في وقت وجيز من أميز دول العالم على مستوى جودة التعليم لم تكن تذكر قبل سنوات قليلة أي قبل خطة إصلاح التعليم الشاملة والتي كانت لا تكاد تذكر قبلها في نادي بلدان التعليم الرائدة، بل وتحولت من بلد يعاني معظم سكانه من الأمية ومن التفتت العرقي والجهل إلى بلد متقدم في مختلف المجالات بالرغم من العوائق الطبيعية والديمغرافية.
لي كوان بو رئيس الحكومة ورجل الحقوق الذي استلم زمام الأمور بعد خروج الاستعمار الماليزي سنة 1965 والمتأثر بفلسفة كونفيشيوس وتحديداً مقولاته الثلاث الخالدة «أنا أسمع - أنا أنسى» و»أنا أرى - أنا أتعلم» و»أنا أفعل - أنا أفهم» اختار سياسة تعليم أقل لتعلم أكثر وانتقى مقياس الجدارة ولا شيء غيرها وأنشأ مدارس التفكير وتعليم الأمة لأنه اختار التعليم ليكون مفتاح التنمية، فبه تتحقق الأهداف والتحديات ومن خلاله يتم جمع شمل العرقيات في عنصر وطني واحد وبه تتطور القوى العاملة ويترقى الاقتصاد فكان أن تشكلت الخطة الإستراتيجية التي تبني المنوال التعليمي وفق الحاجات الاقتصادية للبلد بحيث يكون هامش خطأ التكوين ضئيلاً والبطالة محدودة والتنمية وفق مستهدفات براغماتية فلا مجال للتعليم من أجل التعليم ولا حاجة لمعرفة لذاتها فالتعليم غير منفصل عن سوق الشغل ومسخر لحاجات البلد الاقتصادية.
التعليم السنغافوري الذي شهد ثورة في الشكل والمضمون يمكن تلخيص مبادراته المنجزة في مبادرتين:
أولاً: «مبادرة مدارس التفكير تعليم الأمة» لتحقيقها أعاد رئيس الحكومة النظر في أجور المعلمين مع إعطاء قادة المدارس مزيداً من الصلاحيات وكذلك إلغاء التفتيش واستحداث التميز المدرسي مع تقسيم المدارس إلى مجموعات يشرف عليها مختصون في مجالات تعليمية قطاعية قصد التطوير وابتكار طرق تعليمية جديدة وبرامج راقية، والحرص أيضاً على بناء آلية التطوير الذاتي للمعلم من خلال نظام أطلق عليه نظام المصادر المشتركة والتي تحتوي على ما يفوق 70 ألف درس في سياق ثقافة المشاركة، هذه الثقافة التي طبعت روح المدارس ببصمتها.
ثانياً: مبادرة «تعليم أقل لتعلم أكثر» وترتكز على تقليص زخم التعليم وتعويضه بالممارسة التطبيقية من المحسوس إلى المجرد فكان التطبيق الميداني أساساً لتطوير مهارات المتعلمين الأساسية في مجالات الرياضيات والعلوم والإنجليزية وغيرها من المواد مع ترسيخ الطابع الوطني لأنه لا حديث عن تعليم خارج الانتماء والوحدة الوطنية. هذه المبادرة جعلت الطفل السنغافوري الأول عالمياً في مجال الرياضيات، فهذا البلد (الجزيرة) لم تعقه ظروفه على أن يكون منارة تعليمية كونية.
هذا النظام التعليمي الذي يكافئ المعلم والطالب على حد سواء، فالأول يقيم حسب الجدارة بمنح علاوات وفق 16 مجالاً تقويمياً والثاني ونعني به الطالب من خلال صندوق تشجيع الطلاب بميزانية تقدر بـ 16 مليار دولار منها جزء للمدارس ذات الوضعيات الخاصة لحفز طلاب المناطق التي فيها على التعلم، فلا مجال للانقطاع الدراسي المبكر لأن التعليم في المرحلة الابتدائية التي تبدأ منذ 7 سنوات إجباري، تليها المرحلة الثانية من 13 سنة مع التركيز على الإبداعية والتحفيز حسب الجدارة، فالتعليم السنغافوري ممتع وحوافزه تعطي روحاً إبداعية والمناهج فيه والتي هي في الأساس تطبيقية ترسخ المعلومة وتريح الطالب من أكداس المواد والكتب التي يؤثر حملها على العمود الفقري ونفسياً تنفره من الدراسة وتجعل مؤسسة المدرسة لا جاذبة بل منفرة وهو ما سعت المدرسة السنغافورية لتجاوزه.
التعليم السنغافوري أثبت جدواه كنموذج ملهم شأنه شأن النموذج الفنلندي والنيوزيلندي، وميزته أنه كان المفتاح السحري لبلد انتقل بالتعليم من لحظة التخلف إلى مرحلة الريادة التنموية، فإذا كان المعلم في أعلى سلم بالمجتمع من حيث المكانة والراتب والامتيازات فأكيد من يتجهون لشعبه الدراسية يكونون أميز الطلاب وأذكاهم، ومن ثم من سيعلم الأجيال وينشئ تنميتها وكيف سيكون التعلم..؟ أكيد من الأميز فتكون التنمية والرفاه بالتعليم الذي هو مصنع تطور سنغافورة.