د.جيرار ديب
ذكر مصدر فرنسي رفيع المستوى أن المؤتمر الدولي الذي عقد في باريس لدعم السودان، خرج بمساعدات تفوق خمسة مليارات دولار. اللافت أن هذه المساعدات كان يمكن أن تكون من حق لبنان مثلها أو أكثر، لو التزم سياسيوه بتنفيذ مقررات مؤتمر سيدر آنذاك ونفذوا الإصلاحات المطلوبة.
أقرّت الدول المانحة والداعمة نيتها تقديم المساعدات للبنان عبر عقد مؤتمر سيدر الدولي، تقدم من خلاله القروض الميسرة والمساعدات المادية واللوجستية لإنعاش الاقتصاد اللبناني. بالمقابل، انتظرت هذه الدول أن يقوم المسؤولون في لبنان بتشكيل حكومة حيادية، ذات صفة إنقاذية، تعمل على تقديم الإصلاحات وتكافح الفساد وتعيد ثقة المجتمع الدولي بعد تردي الأوضاع الاقتصادية، وتفشي الفساد في إداراته وعبر مسؤوليه. لم يعرقل اللبناني مؤتمر سيدر فقط، بل أوقف أيضًا دعم صندوق النقد الدولي، الذي طالبه بضرورة القيام بالإصلاحات عبر الإسراع في تشكيل حكومة إنقاذية كي يفرج الصندوق عن الأموال المتوقع تقديمها دعماً للبنان بعد أن يحصل على ثقة المسؤولين ونواياهم الإصلاحية. ولكن عن أي ثقة نتحدث ونحن اليوم لم نر ولادة هذه الحكومة، وقد مرّ تسعة أشهر على استقالة حكومة الرئيس حسان دياب، كيف نريد من المجتمع الدولي أن يثق فينا، فيما الثقة مفقودة بين رئيس الجمهورية وفريقه السياسي والرئيس المكلف سعد الحريري؟ لا بل هناك حرب قائمة على اللا تفاهم بينهما، ورسائل وخطابات وحرب بيانات تظهر أن الأزمة عميقة وطريق التشكيل صعب وشاق.
يشهد لبنان حراكًا سياسيًا يصنفه البعض بالمبادرات الخجولة للتوجه نحو إيجاد حلحلة في مكان ما لتشكيل حكومة إنقاذية تعيد ثقة المجتمع الدولي والعربي على وجه التحديد. رغم التشنج الحاصل الذي أحدثته رسالة الرئيس ميشال عون إلى مجلس النواب، إذ اعتبرت أوساط نيابية معارضة للعهد أن هذه الرسالة غير دستورية وغير ميثاقية لأن الدستور يلحظ كيف يسمى رئيس الحكومة ولكنه لا يشير إلى انتزاع التكليف منه، مشددة على أن هذه الرسالة في غير أوانها، وهي تسهم في تعقيد الأمور أكثر بدلًا من حلحلتها. حسم حزب الله موقفه من تشكيل الحكومة عبر أمينه العام السيد حسن نصرالله الذي أعطى تفويضًا للرئيس نبيه بري، في إطلالته الأخيرة، حيث رفض أي كلام عن سحب التكليف المعطى للرئيس الحريري، خوفًا من تسعير الحساسية السنية الشيعية، فترك لحليفه الرئيس بري العمل على إدارة محركات التشكيل، حتى ولو سيكون ذلك على حساب خذلان حليفه الرئيس عون وطروحاته.
أكثر من تسعة أشهر مرّت على التكليف ولم يتم التوصل إلى شكل الحكومة إن كانت تكنوقراطية أم سياسية أم تكنو-سياسية، فعِقَد تشكيل الحكومة كثيرة؛ منها الخلاف الدستوري حول الأحقية في تسمية الوزراء، هل هو الرئيس المكلف فقط، أم يشكلها مع رئيس الجمهورية، أم تشكل من خلال الكتل النيابية عبر استشاراتها التي يجريها الرئيس المكلف؟ إضافة إلى عقد أخرى تبرز عند الوصول إلى حلول للعقدة السابقة، كعقدة الثلث المعطل مثلًا.
على ما يبدو إنّ كل هذه التساؤلات، لا تهدف إلا للّعب في الوقت الضائع، فالكيدية السياسية الممارسة بين كافة الأطراف هي التي تعرقل تشكيل الحكومة، وتزيد من عزلة لبنان. والكيدية السياسية تعود إلى سببين:
السبب الأول، هو عدم الرغبة لمعارضي العهد بإعطائه أي إنجاز يذكر، بهدف قطع الطريق على طموحات الوزير باسيل في الوصول إلى سدة الرئاسة. ومنهم من يربط الكيدية بطرح وإصرار الرئيس عون على السير في التدقيق الجنائي، الذي سيطول كلّ الذين شاركوا في الحكم منذ الطائف إلى اليوم. وآخرون يعتقدون أنّ عرقلة تشكيل الحكومة، قد تكون لتأجيل الانتخابات النيابية المزمع إجراؤها السنة المقبلة.
السبب الثاني، ربط بعض الأفرقاء في الداخل مصير الحكومة بالتطورات الإقليمية، ولاسيما أن هناك أكثر من حدث على الساحة الإقليمية في طور التحضير، ومنها الانتخابات الإيرانية وملفها النووي. والبعض ينظر اليوم إلى هذا الموضوع من منظار انتصار محور المقاومة في غزة، كي يقرأ المرحلة المقبلة وما الحصاد المنتظر من هذا الانتصار. أخيرًا، تمرّس المسؤولون في لبنان في الحكم، وفي طريقة إقناع الشعب رغم الأزمات التي يمرّ بها البلد، فأصبحت الكيدية في التعاطي من السياسات الممارسة من قبلهم. يتفنن المسؤول في خلق الأزمة في لبنان، كي يمارس سياسة الضغط الشعبي على معارضيه، فيما تكون حلوله السحرية حاضرة. لا يأبه المسؤول باقتناص الفرص، ولا يستفيد من تطورات المنطقة والمفاوضات الحاصلة خدمة لشعبه، بل يضع نصب عينيه دائمًا مصالحه الضيقة حتى ولو كان ذلك على حساب تدمير البلاد، وعدم تشكيل الحكومة مثال على ذلك.