د.فوزية أبو خالد
لبنان الطبيعة
تربطني علاقة وجدانية متجددة بذلك البلد الخلاب الذي اسمه لبنان في تعدده الجمالي من الجبل إلى الساحل ومن مطر الشتاء لبحر الصيف ومن خضرة الأحراش الصنوبرية لزرقة السماء البلورية ومن رماله الشاطئية البيضاء لتربته الزراعية المائلة للحمرة وكأنها مبروش عناب، ومن صخوره البحرية الشاهقة للأعلى كمنحوتات موسيقية تبتهل لخالقها على الروشة وبمدينة صور وعبر تموجات أجنحة النوارس بالجبيل لأسراره الجمالية الصغيرة المختبئة في مغارة جعيتا وعطشانة المتن وريمات جزين ودير الغزال ودير القمر و»دراج» بعلبك، والمتدفقة من نبع الصفا ونبع الباروك ونهر العاصي.
***
لبنان الشعر والفكر والموسيقى
تربطني علاقة خبز وملح وحبر بذلك البلد الأخاذ من صوت فيروز إلى موسيقى الرحبانية بعمقها السمفوني العالمي السماوي ومن غنيتُ مكة أهلها الصيدا ومي زيادة وجبران خليل جبران وأمين الريحاني إلى محمد العبدالله صاحب رسائل الوحشة وبلا هوادة الذي عاد مبكراً مسجاً على الأكتاف إلى بلدته الخيام، وشوقي بزيغ القابض على جمرة الشعر وكأنها جزء من تكوين يده، من عناية جابر التي نامت مجرحة الحنجرة وحيدة بجانب نافذة شقتها الصغيرة المفتوحة على أطلال الحمرا ببيروت ولا يزال في حنجرتها موال وما زال في قصيدتها وهج الشباب إلى سوزان عليوان وجمانة حداد وصاحبة أرشيف الحرب الوجدانية في لبنان ناديا تويني، من أنسي الحاج مطلع النهار عند النبع وشمس زاهي وهبة في خاتمة النساء قرب طاحونة الضحك إلى مدن رجاء نعمة الملونة وأحلام ليلى بعلبكي بالأبيض والأسود.. من غربة إتيل عدنان الفارهة إلى حرية عباس بيضون المطبقة.. من هبة قواس التي اكتشفت أمها صوتها الأوبرالي وهي في المهد فصارت اليوم تجوب الأنحاء، لموسيقى وشعر جاهدة وهبة المنحدر من عود زرياب ومن أناهيد الموشحات.. أسماء وأسماء محفورة على الحور العتيق وشجر الأرز وهامات النخل وعروق الأرض في الشعر والفكر والأدب والعلم.
***
لبنان الصداقة والكرامة والوفاء
منذ زيارتي الأولى للبنان مع أسرتي طفلة بعمر ثلاث أو أربع سنوات وترددي اليومي بجانب أمي وهي تقود بي السيارة من عالية إلى مستشفى القرطباوي بظهور شوير، إلى أن عدتُ للبنان صبية صغيرة على أجنحة الحلم للعيش بمدينة بيروت كطالبة بالجامعة الأمريكية برأس بيروت الواقعة على شارع بلس المتقاطع مع شارع عمر عبدالعزيز وشارع جان دارك، إلى اليوم وأنا أنعم بطيف من الصداقات المتعددة في ميولها الثقافي وفي تخصصاتها العلمية وفي انتماءاتها الاجتماعية وفي أفقها الفكري مع سرب من بنات وأبناء لبنان من جنوبه لشماله ومن بحره وسهله لجبله. وحتى الذين استطاعت شراسة الحرب الطويلة في لبنان عبر الثمانينات الميلادية أن تفقدني عناوينهم فإنها لم تستطع أن تفقدنا صداقتنا المشتركة في «عروس اللبنة ومنؤشة الزيت والزعتر والجدل الفكري والحس الشعري. فبقي حبل عميق من المودة يمتد بيني وبين سرب منهم لما أخاله سيستمر بإذن الله إلى الأبد ويوم for ever and a day.
بعضهم ابتدأت صداقتنا من الطفولة وبعضهم من الصبا ومعظمهم عبر مراحل مختلفة من العمر والتقلبات ومنافذ اللقاء بين بيروت ومصر وأمريكا والرياض، بل إن هناك صداقات نشأت وتعمقت بيني وبين ممثلين حقيقيين بمعنى الكلمة للشعب اللبناني بكرمه وصدقه ورقيه وعفة النفس واللسان عبر منابر التواصل الاجتماعي الإلكتروني. ولطالما التقيت مع ذلك السرب المتنوع من الصداقات في مبدأ عميق اسمه حب الوطن/ حبي لأرض المملكة العربية السعودية وحبهم لأرض لبنان وحبنا المشترك للبلدين في أفقهما العربي.
ولو أردتُ أن أضع قائمة بالأسماء المضيئة من ليلى حسون لحُسن عبود لهدى زريق لندى عبدالسلام لجاهدة وهبة لهيام لطفي لأدال ضو لتريز صليبة لنعمة عنان لغنى العيتاني لإيمان وزياد وطارق اللبان لتمام نقاش وريما اسكندر لحسناء مكداشي لنزار دندش وسلوى الأسمر لزينة صادق لدلال بزري ولجاين سعيد لهدى بركات وعبدالوهاب بدرخان وسوسن بربير.. والقائمة تطول من الصداقات الوطيدة والزمالات من شموع لبنان المضيئة رغم انقطاع الكهرباء وحلكة الظلم والظلام لما كفتها أعمدة من الأرض للسماء.
***
لبنان المستهدف
ولكل هذا فلشدما تعنيني وتؤلمني مأساة لبنان السياسية الخانقة التي تجر بلد العز والكرامة والشعب العتيد بلد الكروم والمكارم إلى أنفاق مظلمة من مكاره السيطرة الطائفية الخارجية لإيران والنظام الدموي الجائر المجاور شمالا وشرقا عبر قفازهما الداخلي القذر المتمثل في حزب يمثل بؤرة الدبابير في الطائفية والدموية بعد أن سقطت عنه ورقة المقاومة المدعاة. ولشدما تعنيني وتؤلمني تلك الشدة السياسية والاقتصادية الطويلة التي يعيشها اليوم لبنان لأكثر من عقد ونصف من الزمان والتي ضاق خناقها على أعناق الأطفال والنساء والرجال بسبب استشراء فساد الطبقة السياسية المطبقة على أقدار لبنان في ظل كورونا وانفجار المرفأ المريب والمضاربات الفاسدة على سعر الليرة مقابل الدولار والنهب الإجرامي لمال لبنان العام مع ارتفاع تجويعي في معدلات البطالة وانخفاض تركيعي في أجور العمل حتى بين العاملين في وظائف محايدة كأساتذة الجامعات.
***
لبنان الأمل
يشجع الشعب اللبناني نفسه اليوم بخروج طائر الرعد من رماد الحرائق وبقدرته على تحدي العواصف التي قاومها لبنان في رمزه الأنثوي «اليسار» عبر تاريخه الوطني السحيق والقريب معا، وقبل وبعد الاستقلال. فلا بد للبنان الذي خرج من مجاعة الحرب العالمية الأولى بعد أن قاوم الجوع برغيف الخبز الأسود وبربط الحزام، وقاوم البرد بحرير القز والحر بشجر الأحراش أن يكون اليوم بمعجزة أو بمستحيل قادراً على نفض ريشه من هذه الهاوية المرعبة.
إن لبنان الشعب الذي قام ممشوق القامة بعد ما لا يعد من الكبوات وطعنات الظهر ولي العمود الفقري خلال القرن العشرين الذي استطاع أن يكون في منتصف ذلك القرن لسبعينياته قبلة الثقافة التقدمية عربيا وعالميا والذي استطاع بعد حرب أهلية أليمة من منتصف السبعينيات لمشارف التسعينيات الميلادية المنصرمة أن يلملم جراح الحرب ويتحول مصنعا للكتاب العربي في منتجه الأدبي المجدد وفي المنتج الفكر المستنير.. يستحق مستقبلاً مشرفاً لا مصيراً غامضاً مرعباً تريد فيه قمة السياسة القابضة على الرغيف والسلاح والدواء دفع القاع اللبناني للموت أحياء أو العيش أموات.
***
لبنان الأسئلة
أمام أنظار العالم يقف شعب لبنان وحيداً اليوم بما لا تجدي معه وصفات رش الملح على الجرح من مهدئات الاتفاقات الأمريكية والفرنسية كاللقاء الأخير بين أنتوني بلينكن، جون إيف لودريان. وأمام الكاميرات الذكية يواجه شعب لبنان وحده مصيرا يكاد يجرف شعبا كاملا خارج لبنان بحثا عن لقمة عيش كريمة وعن نسمة هواء غير مسممة. فمن بدل فردوس لبنان المشتهى إلى جحيم بواح
ومن أعطى هولكات الساسة ونيروداتها الصغار الحق بمطاردة شعب كامل على الشاشات لقتله حيا على الهواء وما الذي يبقى من لبنان ومن العرب ومن الإنسانية إذا عُسكرت الأرض وشرد الشعب وأعيد أنتاج أفلام الرعب في العراق واليمن وسوريا تحت سماء لبنان.
لبنان اليوم لعشاق الجمال والحق برسم الأسئلة وبرسم الأمل ولكنه لن يكون أبدا برسم البيع.