وجود مذهب الإمام أحمد (ت:241هـ) الفقهي والحديثي في إقليم نجد وعلى مستوى الإقليم وساكنيه أمر لا شك فيه، وذلك من بدايته ومروراً بنشأته وحتى قيامه وكيانه، حيث كان جملة من تلاميذه من إقليم اليمامة وما جاورها، وقبل ذلك كان فيها من يُعنى بسماع ورواية الحديث النبوي، وقد حُرر عن هذه الجزئية مقالات، وأما القول بوجود مذاهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة (ت:150هـ) ومالك (ت:179هـ) والشافعي (ت:204هـ) في إقليم نجد فتحتاج المسألة إلى مزيد نظر وتقييد محرر، ولعل المحاور التالية تسهم في ذلك:
- المحور الأول: أن معرفة طبيعة البيئة وحال مستوى العلم والأمن السياسي في الإقليم النجدي وأعراف وتقاليد ساكنيه، وأن نجداً طريق للحج، كما أن البلدان القريبة من إقليم نجد المذهبيةُ فيها قائمة والتأثر والاستعانة ببعض القضاة وارد، معرفة كل ذلك مطلب مهم في تحديد المذهبية الفقهية فيه مقارنة بين المذاهب وطبيعهتا وتكوينها وأسباب انتشارها، مع مراعاة الوعي بمعنى المذهبية لدى العامة والمقلدة ووجودها في سلك القضاء أو الإفتاء أو فيهما جميعاً أو في بعض البيوتات العلمية المتوارثة للمذهبية أو الوافدون إلى الإقليم النجدي أو وجودها في بعض طلاب العلم النابهين، والقول بوجود المذاهب الفقهية الأربعة في إقليم نجد يعني الكثير من الأمور الكبار التي لا يمكن أن تندرس مع مَرِّ الأزمنة دون ذكر وتقيد ولو في كتب الرحالة الذين مروا بإقليم نجد أو تحدثوا عنها، وتوارث وبقاء المسائل الفقهية البارزة في المذاهب والفتوى بها لها اعتبار قوي كصفة الأذان والقراءة المتلوة بأي رواية وبعض مسائل الزكاة والوقف والإرث وشروط النكاح وحجاب المرأة، وكذا أيضاً تداول الردود والصراع المذهبي والتأليف فيه ونسخ كتبه ورصد الأوقاف على المدارس والمكتبات والأربطة المذهبية.. إلخ، كل ذلك يجب الاعتبارية به ومع ذلك لم يوجد إلا ما يوافق مذهب الإمام أحمد. يقول: الشيخ محمود الألوسي (ت:1342هـ) (والغالب منهم - أي أهل نجد - على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والقليل منهم على مذهب أبي حنيفة والشافعي ومالك في الفروع والأصول).
- المحور الثاني: وبعد بحث وتقص دقيق لكثير من المصادر والمراجع المطبوعة والمخطوطة لم أجد سوى إشارات قليلة لمذهب أبي حنيفة وكثيرة لمذهب الشافعي في بلد اليمامة في القرن الحادي عشر وما بعده لبعض القيود القضائية لا تصل إلى أنها آراء فقهية لهما أو تمثل كياناً لمذهبهما ومعتنقيه من أهل اليمامة وما جاورها، ووجودهما في بلد اليمامة لا يعني السيادة والعموم والأبدية، لإدلة كثيرة منها: أن وجودهما كان في فترة ووقت واحد وربما متقارب مما يؤكد أن المذهبية منحصرة في القضاء أو منصب الإفتاء ولا يرتقيهما إلا من كان عالماً متمذهباً، ولذا رأيت بعض توصيات وتزكيات أهل العلم تنص على هذا الشأن، ومن الإشارات وجود بعض التملكات لكتبهما الفقهية والتي لا تتجاوز معنى الكثرة كما أنها ليست أصولاً وأمات في كتب المذاهب!!وقد نقل جملة كبيرة منها الشيخ أحمد بن منقور الحنبلي (ت:1125هـ) في كتابه الفواكة العديدة، ومن الإشارات النصُ في وقف المكتبات والكتب على طلاب العلم الحنابلة مما يشير إلى وجود مذاهب أخرى. وأما أقدم نص وقفت عليه في الإشارة إلى مذهب الإمام مالك هو قول: العلامة يوسف ابن عبدالهادي (ت:909هـ) (وأما بلاد نجد والحسا والقطيف، فلم يكن في شيء منها - أي من مذهب مالك - ولم يكونوا يعرفون غير مذهب الإمام أحمد، ولكن في هذا الزمان حدث فيها، فإن سلطانها ابن جبر قد اتخذ فقيهاً مالكياً فصار فيها بسببه جماعة على مذهب الإمام مالك).
- المحور الثالث: العلم بمعرفة مدى التوافق والاختلاف بين المذاهب الفقهية الأربعة وإمكانية وجودهم في إقليم واحد كفيلٌ لمعرفة كثير من الأمور والجوانب والتي منها: أصول وقواعد المذهب والخصائص والتميز والتحول المذهبي والعناية بعلوم الآلة والإفادة بين المذاهب مع المحافظة على أصالة المذهب المعتمد في الإقليم، فجمع من الفقهاء وبعض كتب التراجم وطبقات المذاهب ترى أن مذهب الإمام أحمد يندرج في مذهب الإمام الشافعي لتفاقهما في كثير من المسائل، أيضاً ويقال إن قول الشافعي القديم هو مذهب الإمام مالك، أيضاً وبما أن مذهب الإمام أحمد يقوم على الأدلة الحديثية وقبله الإمام مالك في المدينة النبوية فإذاً أصل مدرستهما واحد، وهذا المحور يفسر من أهمل ذكر مذهب الإمام أحمد كمذهب فقهي مستقل كما أنه أيضاً يفسر كثرة وجود ونسخ كتب الأحاديث المذهبية ككتاب الإفصاح عن معاني الصحاح لابن هبيرة الحنبلي (ت:560هـ) والذي نسخه الشيخ منيف بن بسام الحنبلي النجدي سنة (882هـ)، ومن الطرائف أن بعض كتب طبقات الحنابلة ترجمة للإمام ابن حزم الظاهري (ت:456هـ) صاحب المحلى، وذلك لإجلاله للإمام أحمد ومتابعته له. وممن نسخ كتاب المحلى من الحنابلة النجديين الشيخ سليمان بن سحمان (ت:1349هـ).
- المحور الرابع: وفي غضون وبعد نشأة المقامات المذهبية الفقهية في الحرم المكي في أواخر القرن الرابع الهجري ثم في المسجد النبوي كان لهما الأثر البالغ والواضح في توطيد وبروز مذهب الإمام أحمد والمذهبية في إقليم نجد واتساع الحراك العلمي المذهبي المتنوع والرحلات العلمية وبالأخص إلى بلد الأحساء والشام، ليكون الحضور المذهبي في إقليم نجد أولاً لمذهب الإمام أحمد ثم الشافعي ثم المالكي ثم الحنفي ثم الاستقرار والظهور لمذهب الإمام أحمد بعد دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت: 1206هـ) إلا لدى عينات من العلماء كانوا يصرحون بمذهبيتهم، ففي بلد الخرج الشيخ محمد بن عبد العزيز المطوع الحنفي نسخ كتاباً في عام (1270هـ)، وفي بلد الأفلاج ونزيلها الشيخ محمد بن حبيب الحلبي الحنفي كان موجوداً بها في عام (1317هـ) وبالجملة، لم يغب ذلك الحراك حتى على مستوى الشعر العامي وعبر صور كثيرة وعلى مدى قرون ومن تلك الصور:
- كثرة النسخ والتأليف في المناسك الشرعية في مذهب الإمام أحمد ومنها منسك الشيخ أحمد بن عطوة (ت:948هـ) ومنسك أبي نمي التميمي (ت:1014هـ) ومنسك سليمان بن علي (ت:1079هـ).
- مشاركة بعض فقهاء نجد الحنابلة في مضاميرعدة منها: تولي مقام الحنابلة في الحرم المكي الشريف كالشيخ محمد بن حميد (ت:1295هـ)، وكذا أيضاً تولي التدريس في رواق الحنابلة بالأزهر بمصر كما حصل للشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت:1285هـ) وممن تيسر له التدريس في المساجد الثلاثة (مكة والمدينة والمسجد الأقصى) الشيخ محمد التركي (ت:1380هـ).
- عناية فقهاء نجد الحنابلة بأقوال وفتاوى فقهاء المذاهب الأخرى ومراسلتهم والدراسة عليهم وتبادل الإجازات والتقاريض بينهم والعكس أيضاً.
- تفعيل الفتوى على قاعدة المذاهب، وهي أن يشترك جملة من فقهاء المذاهب الأربعة المعتمدين في فتوى نازلة بذكر آرائهم فيها، ومن آخر ما اطلعت عليه فتوى في عهد الإمام فيصل بن تركي (ت:1282هـ) مؤرخة في عام 1260هـ.
- العناية المتنوعة بالكتب المعتمدة والمشتركة بين المذاهب الفقهية الأربعة كمتن الورقات في أصول الفقه لعبد الملك الجويني الشافعي (ت:478هـ) والرحبية في الفرائض لمحمد الرحبي الشافعي (ت:577هـ).
- ظاهرة تذيل بعض أسماء أهل العلم والنساخ النجديين بمذهبيتهم. وقد حفظت لنا بعض الوثائق ومنسوخات الكتب بعض أسماء أولئك الأعلام والأسر النجدية.
- تحول بعض الفقهاء النجديين من مذهب إلى مذهب آخر بعد التبحر والاتساع في العلم كالشيخ عبدالله بن محمد صفي الدين نزيل أشيقر تحول من المذهب الشافعي إلى المذهب الحنبلي وكانت وفاته بعد (820هـ) والفقيه حسين بن عثمان بن زيد العقيلي كان على المذهب الحنبلي ثم تحول إلى المذهب الشافعي.
- رصد بعض الأوقاف على مدرسي مذهب الإمام أحمد في المسجد النبوي الشريف وممن قام بذلك الشيخ صالح بن جوعان أحد أعيان القرن الثالث عشر. انظر علماء نجد خلال ثمانية قرون 2/ 531
ثبت بأهم المصادر والإفادات:
إرشاد السالك إلى مناقب مالك.ليوسف بن عبدالهادي. ص: 313 - 665.
- فتح المنان لمحمود الألوسي.ص: 241.
- فهرس مكتبة الإمام عبد الله بن سعود.
- مسرد بأسماء الأعلام والأسرة المتمذهبة بنجد.في الخزانة العلمية للمحرر.
- إفادة الدكتور أحمد البسام والمشايخ عبدالله البسيمي ويوسف الصبحي وعبدالعزيز العصفور.
** **
الدكتور/ خالد بن علي الحيان - المرشد الديني للقوات البحرية