في عالم الإبل؛ تختزن الذاكرة التراثية ما لا يمكن حصره من التراث اللا مادي المتعلق بالعلاقة الحسيّة بين الإنسان والجمل، وتحديداً في مسمّيات خاصة بين الاثنين، وصولاً إلى القصائد والقصص التي مرّت على تاريخ الإبل بعد استئناسها وتعايش الإنسان مع هذا الكائن.
وكمدخل لفهم هذه العلاقة، ففي القرآن الكريم اختص الله تعالى الإبل كمعجزة إلهيّة في خلقها في قوله عز وجل (أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)، والدعوة إلى التأمل في تكوين هذا المخلوق تدل على اختلاف خلقه عن سائر المخلوقات، كذلك في النهي عن الضرر بناقة نبي الله صالح والجزاء الذي حل بقوم صالح عندما عقروها بعد أن طالبوا النبي صالح بمعجزة ليصدقّوا رسالته (وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ). وفي كرامة جمال الإبل، نصّت الآية الكريمة (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) حيث فسّر العلماء رواح الإبل أي عودتها من المرعى وتقديمه على المسراح وهو ذهابها صباحاً إلى المرعى بأن أهل الإبل يعجبون بها إذا عادت مساءً من المرعى، ومشهد يعشقه ويحرص على معايشته ملاك الإبل حتى يومنا هذا. كذلك، ذكرها ضمن علامات الساعة (وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)، وهي دلالة على انتهاء علاقة الإنسان بالإبل.
وفي أحاديث المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، قوله كما ورد في الصحيحين: «إنما صاحب القرآن كمثل صاحب الإبل المعقّلة، إن عاهدها أمسكها، وان أطلقها ذهبت»، وجاء عند الحاكم: «كلكم يدخل الجنة، إلاّ من شرد على الله كشراد البعير على أهله».. كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول الكريم قوله (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في الجدب، فأسرعوا عليها السير). علاوة على ذلك، حديثه صلى الله عليه وسلم عن الإبل كحيوان يعالج الأمراض، في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه (قدِم على النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نفَرٌ من عُكَلٍ، فأسلَموا، فاجتَوَوُا المدينةَ، فأمرَهم أن يأتوا إبلَ الصدقةِ، فيشرَبوا من أبوالِها وألبانِها، ففعَلوا فصَحّوا...).
ففي هذه الآيات دلائل على مكان الإبل كمخلوق، وتقديمه على سائر المخلوقات الأخرى، وقد سخره الله تعالى للإنسان ليأنس معه حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن، وكذلك في الأحاديث النبوية الشريفة عن مكانة هذا الكائن العجيب، وأثره في حياة الإنسان.
لذلك، فعلاقة الإنسان بالإبل علاقة إلهية لم تكن من فكر الإنسان بدءاً من خلقها حتى استئناسها وتعايشها مع الإنسان، فكما تثبت الرسوم الصخرية هذه العلاقة بين الإنسان والجمل، التي تكاد تظهر في كل صخرة مرت بها الأمم السابقة منذ آلاف السنين.
فالإبل تعد هي أقرب الحيوانات إلى الإنسان، وبينهما قصص خلّدها التاريخ الشفهي الذي يجب أن يأخذ مكانه من التوثيق، وربما تطبيقه على مشاهد تفاعلية تنقل الصورة الحقيقة لهذه العلاقة، كما يثبت الشعر العربي بشقيه الفصيح والعامي هذا الارتباط، ففي قصيدة طرفة بن العبد:
وأني لأمضي الهمّ عند احتضاره
بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
ففي هذا البيت تجسيداً كاملاً للأنسة بالإبل، فعندما يخالجه الهم، يمتطي ناقته الضامر في مسراحها ومرواحها ليخرج من ما به من سقم. وهنا في معلّقة الحارث اليشكري (القرن السادس ميلادي) عندما علم برحيل محبوبته أنشد معلّقته التي لجأ فيها إلى ناقته من الهمّ بقوله:
غَيرَ أَنِّي قَد أَستَعِينُ على الهم
إِذَا خَفَّ بِالثَّوِيِّ النَجَاءُ
بِزَفُوفٍ كَأَنَّها هِقَلةٌ
أُمُّ رِئَالٍ دَوِيَّةٌ سَقْفَاءُ
بينما في الشعر العامي، تجاوز الشعراء في محبتهم للإبل، وعلاقتهم بها من استخدامها كوسائل نقل رسائل في قصائدهم التي تبدأ بـ يا راكب اللي... كقول الأمير عبدالعزيز بن مساعد بن جلوي:
يا راكب اللي ليا نازي
مشيه مع القاع يعجبنا
يا راكبه قل لابن غازي
يحفظ مفالي ركايبنا
وقصيدة الشيخ راكان بن حثلين عندما كان في الأسر:
خله وقم يا نديبي فوق مرقالي
هو منوة اللي يبي داره وحيانه
أشقر موزّا طويل الباع شملالي
حدر العقيلي سنامه حشو بدانه
إلى تفضيلها على البشر، ومقارنة حبهم لها بحب النساء، حيث يقول أحد الشعراء:
يا بكرتي يالحضيبية
ما دون خلّي معازيبي
وأوطي على خد نشميّة
عن الحفا والضواريبي
فهو يخاطب (ذلوله) -الأصيل من الإبل- بأنه ليس دون معشوقته (مضاف عرب يمكن أن يستريح، ويكرمها بالوصف بأن يكون خد البنت حامياً لأخفافها عن أي تأثير من الأرض. كما يصف آخر تحركا (فم) راحلته بـ زمام البنت وهو الذهب الذي تضعه المرأة في الخشم، بقوله:
لي بكرة بس أناهمها
مثل هبوب الشمالية
حمرا ليا رف برطمها
ممثل الزميّم بنشميّة
ناهيك عن القصص الخالدة والمعاصرة في علاقة الإنسان بالإبل، منها أن عدداً كبيراً من أهل الإبل انصرف عن الزواج والعمل الوظيفي إلى تتبع مراتعها والعناية بها، وإذا سئل أجاب إنها الإبل ويشير إلى صدره، وتقول العرب في أهمي الإبل التي كانت تدفع جزية ودية ومهر زواج:
البل بنات الإبلي
يا مجوّزات الخبلي
إشارة إلى أن مالك الإبل وإن لم يكن بالمستوى المقبول لدى العرب إلا أن إبله تزوجه.
هذا تاريخ أصيل، لم يأخذ مكانته التي يجب أن يكون عليها، وهذه العلاقة التي خلّدها التاريخ الشفهي، يجب أن تأخذ نصيبها من التوثيق، وأن تضطلع الجهات ذات العلاقة بالإبل بدورها في توثيق هذه العناصر الأدبية التي ستثري المكتبة العربية والدولية في حال تقديمها كمادة إعلامية أكاديمية ترتكز على تعزيز رباني لهذا المخلوق.
وختاماً، في مقولة العرب الشهيرة عن الإبل إذا حملت ثقلت، وإذا مشت أبعدت، وإذا نحرت أشبعت، وإذا حلبت أروت.
واللي يلّوم في غلاة البعارين
يمرّنا يوم الخميس الصباحي
ويشوف ركض بكارها والقعادين
اللي تبشّر بالسعد والفلاحي
** **
- مرضي الخمعلي