ودع الدنيا إلى أول منازل الآخرة الشيخ سليمان بن المرحوم الشيخ صالح بن أحمد بن عبدالله الخريصي يوم الأربعاء ليلة الخميس 24-9-1442هـ الموافق 6-5-2021م ، وتمت الصلاة عليه بعد صلاة التراويح الساعة التاسعة والنصف بمقبرة الموطأ الواقعة جنوب المقبرة الشمالية. والشيخ سليمان هو الابن الأكبر للشيخ صالح بن أحمد الخريصي الرئيس الأسبق لمحكمة بريدة الكبرى بمنطقة القصيم من تاريخ 1378هـ حتى 1413هـ الذي تقاعد عن القضاء حين أعجزه الكبر.
عين فضيلة الشيخ صالح الخريصي خلفاً لفضيلة الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد الذي استقال من القضاء عام 1377 هـ بناء على رغبته أثناء عهد الملك سعود بن عبدالعزيز رحم الله الجميع، وكان الشيخ صالح بن أحمد الخريصي يشغل قبل ذلك رئيس فرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمنطقة القصيم، والحدود الشمالية، ومنها قاضي في الحريق، حتى اختير رئيساً لمحكمة بريدة الكبرى في ذلك التاريخ.
والشيخ صالح بن أحمد الخريصي من مواليد عام 1330هـ قد تزيد أو تنقص سنة أو سنتين والذي توفي والده وهو صغير فتربى يتيماً، في بيت والده مع إخوانه، وتربى تربية صالحة، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن على الشيخ صالح الكريديس، وواصل تعليمه حتى تبحر بالعلوم الشرعية والإسلامية، وتخصص بمذهب الإمام أحمد بن حنبل، ومن العلماء الذين تعلم عليهم
ولازمهم فضيلة الشيخ عمر بن محمد بن سليم، والشيخ محمد بن عبدالله أبا الخيل، والشيخ عبدالعزيز بن إبراهيم العبادي.
نال الشيخ صالح حظوةً وتقديراً عند ملوك المملكة العربية السعودية، الذين عاصرهم، وهم الملك سعود، والملك فيصل، والملك خالد، والملك فهد رحم الله الجميع.
كما نال احترام وتقدير الأمراء خاصة أمراء منطقة القصيم الأمير سعود بن هذلول، والأمير فهد بن محمد بن عبدالرحمن، وصاحب السمو الملكي الأمير عبدالإله بن عبدالعزيز، وإن اختلف معه بداية إمارته على منطقة القصيم عام 1400هـ، بسبب حادثة قتل حدثت بالمنطقة، لشخص من المتطوعين، (المحتسبين) حين اقتحم منزلاً بحي التغيرة بمدينة بريدة، لمنع جريمة، قد تحدث داخل المنزل، وبصفة غير شرعية، اقتحم المنزل معتبراً نفسه من المسؤولين عن دفع المنكر، وهناك نشب خلاف داخل المنزل نتج عنه إطلاق نار على المقتحم، وقتله مع العلم بأنه ليس من موظفي الدولة، وليس من موظفي الهيئات، وإنما اجتهاد من عنده، هو وبعض المتطوعين (المحتسبين) الذين يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر.
ونال الشيخ صالح رحمه الله ثقة واحترام الكثير من الوجهاء، وعامة الناس بالمنطقة، فكان يستقبل الكثير منهم في منزله العامر بعد صلاة الجمعة، وكان يعلمهم، ويحدثهم، ويوزع عليهم النقود، وعليه ينطبق قول الشاعر:
هو البحر من أي النواحي أتيته
فلجته المعروف والجود ساحله
ومن الملفت للنظر بمجلسه، أنه يوزع نقوداً من خمسة إلى عشرين ريالاً على الحضور جميعهم الأغنياء والفقراء والغريب والقريب، وإنّ الكل يأخذ حتى الأغنياء تكريماً للشيخ، وقد يتصدقون بها على غيرهم، وظل على هذه الحال يستقبل الناس حتى أنهكه الكبر الذي أعقبته الوفاة بتاريخ 18-9-1415هـ.
ودفن بمقبرة الموطا الثانية، جنوب المقبرة الشمالية، وصلى عليه خلق كثير، وتكريماً لجثمانه أمر الملك فهد رحمه الله بصلاة الغائب عليه بالحرم الملكي.
عرف عن الشيخ صالح الصدق والتواضع والزهد وكان يختم في شهر رمضان القرآن الكريم أثناء صلاة التراويح، بمسجده ويقضي العشر الأواخر بمكة المكرمة، معتمراً بالمسجد الحرام، ومن زهده رحمه الله كان يكره الميكرفونات، (مكبرات الصوت) طوال حياته، ولا يعترف بها، ولا يستخدمها لا بالدروس ولا بالمحاضرات، ولا حتى بمسجده الذي يؤم المصلين فيه، وظل طوال إمامته يصلي بالمصلين، ويخطب خطبة الجمعة والعيد، بدونها يساعده في ذلك صوته الجهوري، وكان من المعارضين لفتح مدارس تعليم البنات بالمنطقة وشكل مع مجموعة من سكان المنطقة حملات انطلقت إلى الرياض، من أجل مقابلة ولاة الأمر للاعتراض على فتح المدارس، ولكن مطالبهم قوبلت بالرفض من قبل الحكومة، وكان ذلك مع مطلع العام الدراسي 1383-1384هـ.
كان الشيخ صالح عليه رحمة الله كريماً محباً لمساعدة الأهل، وذوي القربي والمحتاجين، والجيران، ويسأل عنهم دائماً ويصرف على الكثير منهم حتى الشرهات والإقطاعية التي نالها من ملوك وأمراء البلاد لم يمسك منها شيء ولسان حاله يقول:
يجود علينا الخَيِّرون بمالهم
ونحن بمالِ الخيِّرين نجودُ
وكان حريصاً على التصدق بها، وصرفها على من هو بحاجة إليها، ويقال إنه لم يورث ديناراً، ولا درهماً، وأظنه واحداً من الذين ينطبق عليهم قول الشاعر:
كَريمٌ إِذا ما جِئتَ لِلخَيرِ طالِباًّ
حَ باكَ بِما تَحوي عَلَيهِ أَنامِلُه
ومع هذا عاش في هذه الدنيا بعزّ وسعادة مقتدياً بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (حبب لي من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة) فقد تزوج بأكثر من ثلاث نساء، رزق منهن بذرية صالحة، نحسبهم والله حسيبهم من (عِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا).
وأكبر أبنائه الشيخ سليمان الذي نهج منهج والده، والذي ولد بمدينة بريدة، وقد تكون ولادته عام 1351هـ الموافق 1931م وكان رحمه الله ملازماً لوالده من صغره في زياراته، وأثناء عمله، تعلم القراءة والكتابة بالكتاتيب، وعلى المطاوعة، كمدرسة بن فرج، والصقعبي وحفظ القرآن، والأحاديث على يد والده الذي كان يجلس بالجامع الذي يؤم الناس فيه، والمعروف بجامع الشيخ صالح الخريصي، بعد صلاتي العصر والفجر.
وكان الشيخ سليمان هو من يحيي مجالس والده رحمهم الله بالذكر، فكان يكلفه بقراءة وجه أو وجهين من القرآن الكريم، وفصل أو فصلين من كتب التوحيد، كمسند الإمام أحمد بن حنبل، وكتب ابن تيمية، وكتب الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والتي تعني بالعقيدة، أثناء المناسبات والأفراح التي يحضرها، والتي تقام احتفاء به أو بغيره، فعندما يصل إلى مقر الضيافة، أو المحفل، وحتى يجهز الأكل يطلب من ابنه سليمان قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، والحديث، ومن الكتب ما تيسر من المواضيع التي تعني بالعقيدة، والمذهب الحنبلي، لكونه حنبلي المذهب.
وأسرة الخريصي قله بمدينة بريدة، ومن الأسر السعودية الوافدة إليها من محافظة الزلفي، قبل حوالي مائة وخمسين عاماً تقريباً، سكن جدهم بقرية المريدسية، قرية تقع غرب مدينة بريدة، ومن ثم انتقلت الأسرة لمدينة بريدة، لتستقر بها إلى يومنا هذا.
امتهن أفراد الأسرة الأعمال والحرف المهنية والتجارية مثلهم كمثل سكان بريدة وبرز منهم أئمة وعلماء يأتي بمقدمتهم فضيلة الشيخ صالح العالم الورع التقي.
وابنه الشيخ سليمان الولد البار بوالده الملازم له في حله وترحاله الحافظ لكتاب الله كان ينوب عن والده في إمامة المصلين أثناء غيابه وقد ينوب عن المؤذن أثناء غيابه حباً للخير والعمل الصالح.
والشيخ سليمان بن صالح بن أحمد انتقل بعد وفاة والده وسكن بحي الفائزية حي من أحياء بريدة الحديثة بطلب من الشيخ المرحوم صالح السلمان الذي سعى بتعيينه إمامًا للجامع الذي شيده على حسابه الخاص وظل إماماً ومؤذنا يصلي ويخطب ويؤذن في الكثير من الأوقات حتى أنه لم يترك النداء الأول لصلاة الفجر حتى أعجزه المرض الذي توفي بعده عليه رحمة الله.
والشيخ صالح وابنه سليمان من الجيل الأول الذين كانوا يلبسون ثوبين واحد فوق الثاني بالصيف والشتاء ويلبسون فوقهما المشلح عند خروجهما من المنزل للصلاة وغيرها وعرف عنهما حب الناس وحب الذكر فدائماً ما يلهجون بذكر الله والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وحب النساء فقد تزوج كل منهما بأكثر من ثلاث نساء ومن الغريب أن كل منهما رزق بمولودين بعد سن الثمانين وكان الشيخ سليمان دائمًا يردد (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق).
وكان المرحوم الشيخ سليمان خاصة بعد وفاة والده حريصاً على زيارة أصدقاء والده وأصدقائه يزور مرضاهم ويقرأ عليهم وظل معلقاً قلبه بالمساجد يحب الجلوس فيها يقرأ القران الكريم قبل وبعد صلاة العصر ويقوم الليل يصلي ويسبح ويقرأ القران من بعد الأذان الأول لصلاة الفجر حتى الأذان التالي حتى أدركه الموت نحسبه والله حسيبه من الذين {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يستغفرون}.
وكان يتفقد جماعة المسجد ويسأل عنهم ويزورهم في منازلهم ويشاركهم الأفراح والأتراح وكان واصلاً لرحمه يستجيب لمن دعاه قريباً أو بعيداً ويشاركهم أحياناً في المطعم والمشرب ويرضى بما يقدم له، ويدعو لمن استضافه بالبركة وبظهر الغيب وظل يحب الناس ويحبونه ويزورهم ويزورنه حتى أنهكه المرض الذي بموجبه منعت عنه الزيارة عليه رحمة الله.
وعرف عنه التواضع وحب الأطفال وكان دائماً ما يفرحهم بالنقود وبالحلوى متأثراً بتعامل والده مع الصغير والكبير والقريب والبعيد وظل على هذا الحال حتى أنهكه المرض في آخر حياته ليودع الدنيا يوم الأربعاء 24-9-1442هـ الموافق 6-5-2021م.
خلف الشيخ سليمان ذرية صالحة نحسبهم والله حسيبهم من الذين قال الله عنهم: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.
نسأل الله أن يجعله من السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، وأن يسكنه الفردوس الأعلى، وأن يجعل قبره روضة من رياض الجنة، وأن يجعله من المحسنين الذي قال الله عنهم {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين}.
** **
علي محمد إبراهيم الربدي - القصيم - بريدة