أحل الله لعباده العديد من الطيبات وهي من نعم الله تعالى علينا، أحلّها الله لنا لنتمتع بها بما شرعه وأحّله، قال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}.
وهذا أمر مباح ومرغوب لا إشكال فيه ولا تثريب، لكن المشكلة كل المشكلة في أن يتجاوز الموسرون في الإسراف في نفقاتهم وإظهار أنواع من الترف لم نكن نعهدها. ويزداد الأمر سوءاً أنها أصبحت تتزايد في مجتمعاتنا ونحن ساهون لاهون حتى وصل شرها وشررها إلى الفقراء فقلدوا الأغنياء في عاداتهم، وأصبحوا يبحثون عن كماليات غير مقنعة ومظاهر مبتذلة. هنا تتبدل الموازين وتتغير!
لقد تعدينا مرحلة الإسراف إلى مرحلة الترف حتى غدا الواحد منا اليوم يبحث عن كماليات دون حاجة لها وإنما ليقال: ما أجمله ما أروعه ما أحسنه!
مظاهر زائفة وكماليات خادعة أوقعت العديد في براثن الإسراف والترف والديون والأسلاف، فلماذا؟ ولا جل مَن؟
خذ جولة بسيطة في مجتمعنا اليوم، وتفحّص أنواع الترف، ها هي الجوالات التي مبدؤوها الحاجة صارت اليوم مظهرًا واضحًا من مظاهر الترف، مع الزوج والزوجة والشاب والفتاة، بل حتى الأطفال. وليس أي نوع يصلح أن يقتنوه إن لم يكن ذا مواصفات عالية ومظاهر جذابة؛ فانتفت الغاية وحلت المظاهر مكانها. راتبه لا يتعدى ثلاثة آلاف ريال يعجز نهاية الشهر عن أن يسدد فاتورة الكهرباء لبيته ومع ذلك يستدين ليقتني جوالاً فاخراً في يديه ويقال عنه إنه واكب آخر الصيحات والماركات!
خذ جولة بسيطة حول زواجات بعضنا وانظر ماذا يحدث فيها! اليوم أصبحت وليمة العرس هاجسًا يؤرق العريس وأهله، ويزيد من داء العنوسة والعزوبية!
قصور الأفراح تعج بأنواع من الإسراف والكماليات بل بتقليعات وزفات وأمور لم نكن نعهدها في سابق الأزمان، وكل ذاك بداعي التقليد للغير. وليت الوضع اقتصر على التقليد فقط بل تعدى إلى المفاخرة والتحدي بأن يكونوا أحسن من فلان وعلان ولسنا أقل من غيرنا. ولائم ممتدة مصيرها إلى براميل القمامة، تغالي في الملابس والحلي بل حتى في فناجين الشاي!!
أين تسير المهور؟ أين الزواجات المعتدلة التي كنا نعهدها في سابق الأزمان حيث سادت البركة، وعاشوا بركتها طوال الأزمان؟!
ملابس النساء وشنطهن الفاخرة تعدت الألوف في تسابق حثيث وسريع لاقتنائها، ولو كلفت مبالغ مستدانة أو أموالاً مقترضة. المهم أن لا أكون أقل من غيري في لباسي أو ماركاتي، وأكون حديث الحاضرين بشياكتي وأناقتي!
أما بيوتنا ومساكننا فلا تسل عن تلكم النِّعَم التي نزخر بها في بيوتنا، نأكل يسيرها، ونرمي كثيرها، يؤكل بعضها، ويُرمى جلها مع أكوام النفايات دون حسيب ولا رقيب. أصنافٌ من الطعام والشراب، وتفننٌ في صنع الوجبات والمأكولات، ماذا تريد من الغداء؟ ماذا تشتهي من العشاء؟! إزهاقٌ للأوقات، وإنفاقٌ للأموال، في بعض الدول الأوروبية تُجمع القمامة والنفايات المنزلية يومين في الأسبوع، وعندنا إذا لم تجمع القمامة في اليوم مرة أو مرتين تحولت الشوارع إلى مزابل من الأطعمة! ثم انظر إلى تلكم الفيلات الفاخرة والأثاث الذي يتغير بين الفينة والأخرى بحجة أن المودرن أصبح لا يتناسق مع الموضة والعصر الحديث.
نعم، هناك أناس أعطاهم الله مالاً وثراء، ولم يكونوا يومًا مبذرين أو مسرفين أو متبخترين، وهناك أُسر قلَّ اكتفاؤها المالي وفي الوقت نفسه يحز في خاطرها ما تراه من تبذير وإسراف وعبث بنعم الله حتى اضطر الفقير إلى أن يجاريهم في أعراسهم ومناسباتهم وسفرياتهم وغيرها من الكماليات، فإن كان ولا بد فليكتم الغني جشاءه حتى لا يتأذى الفقير منه!
معاشر المترفين، يا أولي النعمة.. لا تقولوا كما قال الذين من قبلكم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}، لا تقولوا ذلك فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.
فُتحت علينا الدنيا فتنافسنا فيها كما تنافس الذين من قبلنا، وما الفقر بالذي يُخاف علينا منه، لكن الذي نخاف منه توالي النِّعَم ونسيان شكرها، وتتابُع العطايا وجحود حقها.
والتَّرَفُ والإسراف وتتبُّع الكماليات ليس مُرتبِطاً بالغِنَى؛ فكم من غنيٍّ شاكرٍ بعيدٍ عن التَّرَف، ومُترفِّعٍ عنه، أخذَ المالَ من حِلِّه، ووضعَه في محِلِّه، قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: «نِعمَ المالُ الصالحُ للمرءِ الصالحِ».
كما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن اللهَ جميلٌ يُحبُّ الجمالَ»، وقال: «إن الله يُحبُّ أن يُرَى أثرُ نعمتِه على عبدِه»، وقال: «كلُوا واشربُوا والبَسُوا وتصدَّقُوا في غير إسرافٍ ولا مخيلةٍ».
ويُقبلُ من الغنيِّ في التوسُّع ما لا يُقبَلُ من الفقير؛ فعن عبد الله بن حُميدٍ قال: مرَّ جدِّي على عُمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وعليه بُردةٌ، فقال: «بكم ابتعتَ بُردةَ هذا؟» قال: بستِّين دِرهماً. قال: «كم مالُك؟» قال: ألفُ دِرهم. قال: فقامَ إليه بالدِّرَّة فجعَلَ يضرِبُه ويقول: «رأسُ مالِك ألفُ دِرهَمٍ وتبتاعُ ثوبًا بستِّين دِرهماً».
والأمرُ العجيبُ: أن يتقحَّمَ الفقيرُ مسالِكَ التَّرَف، ويلبَسَ ثوباً غيرَ ثوبِه، ويشترِيَ الفاخِرَ من الأثاث، ويتصرَّفَ في أمورِ حياتِه كالأغنياء. وبهذا يضُرُّ نفسَه، ويُتعِبُ حالَه، ويتحمَّلُ أعباءً ماليَّة، وديوناً ثقيلةً، وإذا قارَنَ العَوَزَ الكِبْرُ فتلك الطامَّةُ الكُبرَى.
هي مشكلة مجتمعية؛ يجب أن تعالَج قبل أن يستفحل ضررها، ويستطير شررها. وتلكم -والله- مسؤولية الكتّاب والخطباء والمعلمين والأدباء.. نعم، يجب أن نعالجه بأن ننشر في المجتمع بأن ينظر الإنسان إلى من هو دونه في شأن الدنيا ولا ينظر إلى من هو فوقه؛ لكي لا يزدري نعمة الله عليه، وبأن تُغرس القناعة في نفوس الأبناء لقطع دابر آفة المحاكاة والتقليد والإسراف عنهم، وبأن لا يغفل المرء عن حقيقة الدنيا لئلا يتعلّق قلبه بها، وينسى آخرته التي هي دار القرار، قال تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}. فلنحذر أن تكون زينة الدنيا مجالاً للتنافس والتفاخر كما حذّرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم».