د. شاهر النهاري
في سنة 1415 للهجرة كنت عاشقاً للهجة العسيرية القديمة، وباحثًا عن مفرداتها المنقرضة من خلال كبار السن، وكانت الظروف الاجتماعية وحتى الإعلامية في حينها عازفة عن التطرق للخصوصية الضيقة، وعن البحث التراثي، بيقين أن العودة للماضي تعد من مناطق العيب الاجتماعي، وكان التلفظ بتلك اللهجة القديمة، حتى مع كبار السن، ينال النقد ممن يستمعون إليها، ويعتبرون ذلك مخلاً بعمومية اللهجة البيضاء، التي كانت سائدة في حينها سواء في المدارس أو في عموم المجتمعات، ولا يختلف على معانيها كثيراً.
وقد دخلت نوعاً من التحدي مع بعض الأقران بأن أتمكن من صياغة قصيدة شعبية عسيرية بقالب تراثي قديم، وكان أن قبلت التحدي، وقمت بكتابتها على شكل مقاطع متصلة منفصلة، وباستخدام الألفاظ، التي لم تكن حينها مفهومة بشكل كبير، بل إن عدداً منها كان مندثراً بالكامل.
وقد قمت بعرض تلك (المقطوعة الأدبية الشعبية) على عدد من معارفي، فوجدت ردود فعل مبشرة من البعض، ووجدت الرفض الكامل من البعض الآخر.
وكنت حينها على معرفة بالكاتب والأديب والتاريخي واللغوي الفريق يحيى المعلمي -رحمه الله، وكان أن سمع عنها وطلب مني أن أطلعه عليها.
توجهت إلى منزله بالرياض، وقرأتها له، وهو مبتسم يحاول تفهم ألفاظها، ولسرعة بهجته بها وجدت الجانب المشرق لذلك العمل المختلف عليه.
وبكل قيمته وتواضعه أخذ بيدي، وشجعني، وأخذ القصيدة على محمل الجد والأهمية، ووعدني أنه سيكتب عنها، رغم أنه كان وحسب عمله عضوًا في مجمع اللغة العربية لا يحبذ الأعمال الشعبية، ويؤكد على الفصحى، وكان له تاريخ من الحوارات الطويلة في هذا الشأن، مع الباحث والمؤرخ والعلامة حمد الجاسر -رحمه الله.
وكتب دراسة لهذه القصيدة، أطرى فيها عليها كثيراً، وقال إنه قد وجد فيها حلاوة، وطلاوة.
وكم كنت فخوراً بما وصلت إليه، وأنا لم أنشر حينها أي عمل أدبي لي، ولكن موقفه شجعني لاتخاذ قرار جمع بعض أعمالي الأدبية، ونشرها ضمن ديوان بتقديم الأستاذ الكبير يحيى المعلمي.
وفي بداية 1416- 1996 تم نشر الديوان «مداوي الجروح» على نفقتي الخاصة، وعن طريق دار العبيكان للطباعة والنشر، وبتوزيع الشركة الوطنية للطباعة والنشر.
والحقيقة أن هذا الديوان قد نفذ بالإهداء، وليس عن طريق البيع، وقد تم تصوير جزئية القصيدة، وطباعتها، وتداولها بين القراء، باليد، وخصوصاًَ أن الديوان بذاته لم يصل للمنطقة الجنوبية، ولم تكن مواقع التواصل والإنترنت في حينها فاعلة، ولكن القصيدة أحدثت حراكاً ثقافياً غير مسبوق، وفتحت باباً كان مغلقاً، فكنت أتلقى المئات من المكالمات الهاتفية المستفسرة والمشجعة، بل إن بعضها كان يشكك في أنها من تأليفي، ويتحجج بأني لم أسكن المنطقة الجنوبية إلا سنوات عدة في طفولتي، وأنَّى لي أن أتخيل تلك الأجواء والصور القديمة المندثرة.
وتمر السنوات، وهذه القصيدة تظل محوراً للنقاشات، وقد حاول البعض إضافة بعض الأبيات عليها، وكم من مشكك بكنه كاتبها، رغم أنها مسجلة لدى مكتبة الملك عبد العزيز ردمك 6-218-20-9960، ورقم الإيداع 2984/ 16.
** **
ما عادش تلتهمين
مقدمة:
دخل شاب على جدته وهي بمنزلهم بمدينة من المدن السعودية الكبيرة، لم يرق له شبح الكآبة المرتسم على وجهها الذي يدل على جمال سابق وخفة روح لم يستطع الزمن محوها.
أراد الشاب أن يداعب جدته ويزيل عنها تعاستها فخاطبها بلهجتها، التي تحبها وأعاد لها بعض ذكريات الماضي.. قائلاً:
ما كن عادش تلتهمين
يا جدتي ذيك السنين
والفأس بيدش تحطبين
غبشة وغدوة تستقين
***
وألا ببهمش تسرحين
ومعا الصبايا تعودين
تحمين بر في الجرين
وتحوقين .. وتخضرين
***
ما تخبرين ذيك القرى
اللي تداحنها الغيوم
وجبالها طول الذرى
لس حولها الا النجوم
***
تتذكرين ذاك الغدير
اللي توزى حول جرف
أخضر دعاديعه تغير
من خوفها الوادي يجف
***
تتذكرين ذيك الكتر
لس بينها غير الرقف
فيها فوانيس وسهر
فيها البراءة والشرف
***
تتذكرين برد الشتاء
وجمر توالع في صلل
والصيف وهبوب المساء
يأتي معرض بالجبل
***
تتذكرين ذيك السقيفة
اللي إمتلت حب وعجور
وفوق المداميك النظيفة
حبقٌ وريحان وزهور
***
تتذكرين والسقف غادي
كم رصرصوا تحته صحاف
وإلا متى ما سال وادي
كل على بلاده يخاف
***
تتذكرين والبرد يبهز
نومه على ذآك الدبب
بمعطب وباب مرزز
والماء يخر من السرب
أما السفالي تذكرين
يملونها بهم وبقر
دايم يخشون السمين
لضيف على غفلة حضر
***
ما تذكرين بير السند
فيها العوال يشرعون
والجدعا ما خلت أحد
غير إنهم يتداحقون
***
ما تذكرين جحش يصالي
وأمه تمرغ في رماده
أو جعر يجعر في الليالي
هدد على صيد وصاده
***
أما الحنادي.. تخبرين
جنية للبنت تكسي
والغول يحلف باليمين
ما يمسي وبالبيت إنسي
***
وشاة الليالي مخلقه
تخُنق لكهل شلها
وسعلاه تموت محرقه
أشوه تواسي كلها
***
تتذكرين أهل الوطن
من ذا يفرق شملهم
لو واحد صابه حزن
حزنوا الجماعة كلهم
***
تتذكرين ذيك العجوز
اللي العوال يحبونها
في كمها حمبص ولوز
من طيبها. يسطونها
تتذكرين ذوك البنات
من غير داعي يذهنون
بحبال جلد محزمات
لشعب الحطب يتسابقون
***
تتذكرين حيد الرحى
في السك الأعلى دايرة
وصبيه ترضع نمى
تطحن ولس به بايره
***
تتذكرين دوح الشعير
والله ما أطعم منه
وشاهي على جمر كثير
سعداه لو إنه هنه
***
تتذكرين أقراص بر
جونه ودمتها مره
أو مطرح عرض ومر
محشور بأقراص الذره
***
تتذكرين ذاك اللباء
اللي تغطى بالحثر
وإلا زبيب في الخباء
خشوه في تيك الصرر
***
تتذكرين لحم القديد
وألا الفروقه بالقرد
وألا المصبع يوم عيد
وسمن الرضيفه ما برد
***
تتذكرين طعم الغلية
وألا العريكة بالعسل
والا المقلقل والشوية
ومسيله فيها بصل
***
تتذكرين طعم الخريف
الفركس وحالي الجنا
وبرشوم مقشور تحيف
وحماط.. يا ليته هنا
***
تتذكرين ثفا القناطر
والعطره والدجر الكبير
وإلا بلس مقطوف شاطر
مرضوخ في جال الغدير
***
تتذكرين خوخ الركيب
وتفاحة حول المشنة
ورمان للطاعم يطيب
طراعتي شبرين منه
***
تالي الزمان اشتلوه
ما عاد به فاقه لشي
حتى الأخو شنيوه
والحي ما يفزع لحي
***
بقعا تصوع خريفهم
طعمه وزعمه سامجين
وحليل عينه.. ضيفهم
لو جاء لقاهم مصنفين
***
يا جدتي الله يسقي
ذاك الزمان ويرحمه
ما عاد ينفعنا ونبكي
أقفا ومن ذي يلزمه
***
يا جدتي الله يحفظنا
من تالي الزمن وشروره
في الصبح غومتنا عنا
وفي الليل خُطر مكسوره
قصيدة عانت وعانيت معها، فلم يتناولها أحد في دراسة أدبية إلا مؤخرًا.
وقد قمت بعد ذلك بكتابة رد الجدة على ابنها، وبالأسلوب نفسه، ولكني لم أقم بنشره في كتاب.
جميل وحزين هو شعور التشكيك في نسبة القصيدة لي، وما زلت أجد المشككين في كل مكان، وكان آخرها أثناء ندوة لي في النادي الأدبي بأبها بعنوان «تراث الحكايات الشعبية والهوية -العسيرية أنموذجاً»
وفي نهاية الندوة أجد أحد المتحمسين يطلب مني إلقاء قصيدة (عادش تلتهمين)، فتعذرت له بأني لا أحفظها، ليبادر عدد من الحضور بفتح جوالاتهم على مواقع تحتوي على القصيدة، وطلبوا مني قراءتها ليتبينوا قدرتي على لفظ الكلمات وتصوير مشاعرها!
وهذا ما حدث ويحدث معي في لقاءات ثقافية عدة، فكأن هذه القصيدة تظل تعيش معي طوال الوقت، متناسية أني قد أنتجت بعدها مجموعة قصصية باللهجة نفسها (حنادي ونقوش من عبق أبها القديمة»، عن نادي أبها الأدبي وعدد اثنا عشرة كتاب ورواية، وإني أكتب في شتى أنواع الأدب والنقد الفني.
ويظل السؤال يدور، ولذلك أحببت أن أحكي قصتها معي، أو قصتي معها.