د. منى بنت علي الحمود
صبيحة هذا اليوم العشرين من مايو.. سبقتني مشاعري مستيقظة مبكرًا.. تحملني دون ما أشعر لأجدني أمام خزانة قد اعتدت على حفظ أشيائي القديمة بعمرها المتجددة بذكراها فيها.. لم يلفت انتباهي في تلك اللحظة سوى ذلك الكتاب الصغير.. ذلك الكتاب المقدس.. ذلك الذي أغلقت آخر أبواب صداقاتي عند آخر ورقة أغلقتها منه.. ولآخذكم لرحلتي مع هذا الكتاب.. كان من أجمل الهدايا التي تلقيتها من إحدى أخواتي في ذكرى ميلادي الثانية عشرة.. وكـ «بروتوكول» لتسليمي هذا الكتاب كانت هي أول من يسطر لي بعض الأحرف البسيطة والتي كانت تحثني فيها على حسن استخدام هذا الكتيب.. وكأنها ستسلمني قنبلة ذرية.. فلا عجب فقد كانت في ذلك الوقت نظرات الشك والريبة دائماً ما تتمحور حول كل فتاة صغيرة بعمري تحمل بين يديها هذا الكتاب.. كانت مجازفة جميلة من أختي!!.. ومما يزيد من رسم حدود قداسة هذا الكتاب هو سريته!!.. فلم يكن يظهر للعيان أبدًا كغيره من الكتب الأخرى.. إلا بحيلة ماكرة مني وهي إدخاله للحرم المدرسي لإحدى معلماتي لتكتب لي فيه!!.. ويبلغ الأمان حده عندما يقتحم هذا الكتاب المتمرد خصوصية الإدارة المدرسية.. كانت عباراتهن صادقة ورصينة وغالباً ما يحرصن على تسطير تلك الدعوة الجميلة رغم فقرها ورتابتها «أتمنى لك التوفيق في حياتك العلمية والعملية».. لكنه لم يكن لتلك العبارات لتروي ذلك الشغف عندي والذي كنت أعتقد أنه الهدف الرئيس من هذا الكتاب.. إنه الشغف بحب الصديقات وكلماتهن البريئة المعبرة بعفوية.. وما كان يصاحبها من عبارات ساخرة أو رسوم عاطفية.. كان اختيار آخر صفحة للكتابة فيها يعني لنا الكثير.. تحت فلسفة أنه لن أسمح لأحد أن يكتب لك من بعدي.. وعندما تكتب لي صديقة من ثقافة أخرى أشعر وكأنما أخذتني لثقافتها بكلي جسدًا وروحاً.. كنا نعطر الصفحات لتبقى من الذكرى الخالدة في هذا الكتاب.. حتى لو اضطررنا إلى سرقة عطر إحدى أفراد العائلة أو استخدام عطر قديم.. لكتابي هذا قوانينه الصارمة فلا وساطات فيه ولا مجاملات.. باختصار لم أسمح لأحد أن يخط فيه سطراً واحداً إلا من كان أهلاً لذلك الاختيار.. فصفحاته معدودة من جهة ومترابطة من جهة أخرى.. فنزع صفحة واحدة سيكون ثمنه باهظاً بسقوط صفحة أخرى قد تكون من أجمل الصفحات!!.. إنه كتاب مقدس حقاً لم يمسه إلا المطهرون الصادقون.
اليوم.. قلبت صفحات كتابي هذا برفق وكأني ألمس كل حرف فيه وكلمة كورقة وردة فاح شذاها في مخيلتي معيداً لي عطر تلك الصفحات.. قلبته بابتسامتي التي خرجت من قلبي لتسكن مطمئنة على شفتي.. بضحكاتي العالية التي ماجت بي يمنة ويسرة بلا خجل وأنا أجلس بين تلك السطور والكلمات وكأني أجلس بين صديقاتي حقيقة.. بدعواتي التي خالطت عنان السماء بأن يحفظهن الله أينما كنَّ وكيف ما كنَّ..
اليوم.. حق لي أن أعترف بأني قد أغلقت آخر أبواب صداقاتي بعد إغلاقي لآخر صفحة من كتابي الصغير.. اليوم.. سأعيد النظر في صفحات حياتي.. فكثير ممن تطفلوا على سطور أيامنا بقناع الحب أو الصداقة هم من لوثوا صفحات حياتنا.. سأمزق كل الصفحات الملوثة.. لن يكون هناك صفحة جديدة لأحد مهما كان.. المسح ممكن لكن العودة إلى السطر مستحيلة.. ما سأضيفه من سطور سيكون بملكي الكامل.. لن يكتب في كتاب حياتي إلا من يستحق الكتابة فيه.