د.إبراهيم بن عبدالله المطرف
تقدِّم المؤسسات والجمعيات التي أطلقها الملك سلمان بن عبد العزيز، منذ أن بدأ رحلته المباركة في خدمة وطنه وأمته، وفي كافة المواقع التي تولاها، أنموذجاً للأداء «التنموي» والعمل «التطوعي» وليس مجرد الأداء «الخيري» المنعزل عن مجتمعه، والمحاصر داخل مفهوم «الفردية»، والعمل الشخصي المقطوع الصلة بالإنسان.
لم يكن هدف جمعيات سلمان بن عبد العزيز ومؤسساته «الخيرية» مجرد أداء «الصدقات» للمحتاجين، أو منح «شقة» تؤوي من لا مسكن له، أو تقديم الطعام لفقير. ولم يكن الهدف «مجرد» تقديم المساعدة والمعونة لكل ذي حاجة، ثم تنقطع صلة الجمعية أو المؤسسة به، بل كان الهدف أوسع، وأعرض، وأكبر، وأشمل من ذلك بكثير، ويتجاوزه إلى الإسهام في إعادة بناء «المواطن» الإنسان، ليكون عضوًا «اجتماعيًا» فاعلاً، ومواطنًا منتجًا يكون دائمًا في خدمة أسرته ومجتمعه ووطنه.
ولا ينظر إلى الجمعيات والمؤسسات الخيرية التي أنشأها الملك سلمان على أنها مؤسسات «خيرية» وحسب، لكنها جمعيات ومؤسسات «تنموية» بالأساس، سعت، وتسعى، إلى إعادة بناء وتأهيل المواطن وأسرته، ليكونا فاعلين في عملية التنمية، وإضافة إلى رصيد المشاركين في بناء الوطن.
في هذا الإطار، نستطيع أن ننظر إلى أداء المؤسسات والجمعيات التي أنشأها سلمان بن عبدالعريز، وأن نتأمل دورها، ونتعمّق في رسالتها، «مفهوماً» يؤسس لأداء مجتمعي واسع وشامل في حياتنا الاجتماعية، ويرسخ «منهجاً» فعَّالاً ومؤثرًا، يمكن أن يمثّل «قاطرة» في خريطة مؤسساتنا الخيرية، و»أنموذجاً» لمختلف المنظمات التي تتصدى للعمل التطوعي أو العمل العام، و»رائداً» في إرساء ركائز العمل المؤسسي، دافعًا «منظومة» الجمعيات والمؤسسات الخيرية نحو آفاق تجذبها إلى مزيد من «التجذّر» في بنية المجتمع السعودي مفهوماً وأداءً، ليصبح «الخير» سلوكًا مجتمعيًا عامًا ووجداناً يتسابق إليه الجميع، والأعمق والمهم، أن يتحول «وجداناً» عاماً، صانعاً «للضمير المجتمعي» وموحداً للناس كافة في حياتهم اليومية.
ذلك، أن العمل الخيري خاصة، و»التطوعي» أو «الاجتماعي» بشكل عام، ينطلق مفهوماً ومنهجاً من «رؤية» اجتماعية واقتصادية خاصة، تبنتها «منظومة» سلمان الخيرية والاجتماعية - متجاوزة المألوف والشائع من مفهوم «البر والإحسان» إلى المحتاجين أو الفقراء، باعتباره مجرد فعل عاطفي وتلقائي، ينتهي بمجرد انتهائه وفور القيام به على نحو فردي - إلى مساحات أكثر اتساعاً ورحابة، تتماس مع المجتمع، وتتلامس مع أفراده، تلامساً حقيقياً عميقاً وقوياً.
هكذا ترسخت «رؤية» سلمان بن عبد العزيز للعمل الاجتماعي والتطوعي، لتحفز الكثير من أبناء المجتمع السعودي، من رجال المال والأعمال وغيرهم من المبادرين إلى الخير، ولتدفعهم دفعاً إلى مجالات «العطاء» المجتمعي، على قاعدة تنطلق من مبدأ المسؤولية الاجتماعية، وميادين العمل التطوعي والمشاركة المجتمعية، لتسهم في العديد من الكيانات «الوليدة» من المؤسسات الخيرية التي أخذت في الانتشار والاتساع في مختلف مناطق المملكة وفي مختلف المجالات، بناءً وتعميقاً لـ»منهج» و»مفهوم» و»مدرسة» سلمان الإنسانية، نموذجاً مؤسسياً للمبادرات الخيرية، وليكون أداءً وسلوكاً بارزاً في الحياة اليومية، متجذِّراً في تربة المجتمع السعودي، وبحيث تساعد المؤسسات الخيرية أجهزة الدولة، وتعينها وتعزِّز حركتها في خدمة المواطنين، وبحيث تملأ هذه المؤسسات الخيرية المساحات التي لم تصل إليها أجهزة الدولة، في تأكيد «عملي» لأهمية مبدأ «الشراكة» بين الدولة والمجتمع الأهلي، حيث تنشط القطاعات والمؤسسات المدنية، وتندفع كلها إلى التعاون في كافة الأعمال الاجتماعية والاقتصادية، جاذبة معها مختلف شرائح المجتمع إلى ممارسات متنوّعة، عديدة وواسعة، تسهم في تقوية البناء الاجتماعي، وتزيد من صلابة المجتمع، وتدعم وحدة أبنائه.
ويؤكد الكاتب هنا، حقيقة أن نطاقات ومجالات عمل الجمعيات والمنظمات «الأهلية» في عالمنا المعاصر، قد اتسعت منذ الربع الأخير من القرن العشرين، واتسم أداء الحكومات بالاتجاه إلى اعتماد مبدأ «المشاركة» مع الجمعيات والمنظمات الأهلية، والتعاون معها في الكثير من المجالات، خاصة في الخدمات التي تحتاج إليها المجتمعات الحديثة، حيث لم تعد قدرة الحكومات كافية لكي تلبي كافة احتياجات مواطنيها، ولذلك، لجأت الحكومات إلى المجتمع الأهلي، لكي يساعدها في تلبية حاجات المواطنين، والمعاونة في تقديم الخدمات في مجالات لا تصل إليها يد الدولة.
وقد رأينا تطورًا كبيرًا في هذا «الإطار» على المستوى العالمي، لا فرق بين دولة غنية ودولة فقيرة، ولا بين دولة كبيرة وأخرى صغيرة، ولا بين دولة متقدمة وغيرها متخلفة، حيث لم يعد الوصول إلى مجتمع «الكفاية»، وهو هدف أكثر الدول رقياً، لم يعد يأتي من خلال قنوات الإنفاق الرسمية فحسب، بل أصبحت المجتمعات تسعى إلى تحقيق هذا الهدف، عبر تطوير مجمل أدواتها وآلياتها، ومن خلال تفعيل كافة أجهزة المجتمع وقطاعاته، وفي مقدمتها أدوات العمل الخيري والإنساني، وإطلاق برامجه في مختلف أوساط المجتمع، لتترابط حلقاتها وتتشابك، مؤدية إلى توسيع مساحة «الكفاية»، وتقليل مساحة «المعاناة»، والحد من تداعياتها وتأثيراتها الاجتماعية.
ومن خلال منظور «إسلامي» للعمل الاجتماعي، انطلقت برامج جمعيات سلمان ومؤسساته الخيرية وأعمالها في مختلف مجالات العمل التطوعي، وانتشرت في الأرض تسعى بين الناس بالكثير من الجهود في مجالات الخير والبر والإحسان، حيث رأى سلمان، ولا يزال يرى -سلّمه الله- أن «عمل الخير المتعدي نفعه إلى الناس هو خير من العمل القاصر الذي لا يتعدى صاحبه، وأن العمل المتعدي نفعه إلى الآخرين، هو في شريعة الإسلام أعظم أجراً وأكثر نفعاً. (الرياض، الثلاثاء، 6 ربيع الثاني 1436، 27 يناير 2015، الملك سلمان والعمل الخيري - علاقة وفاء ومبادرات متجددة - نايف الرشيد).
من هنا، اكتسبت مبادرات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وإنجازاته في مجالات العمل الاجتماعي والإنساني الخيري تميزها على قاعدة «دينية»، فأصبحت من ركائز عملية «التنمية»، بل وأصبحت أهم روافعها، إسهامًا في توسيع الخدمات العامة في المجتمع وتعميقاً لرفاهيته.
وقد أدت جهود هذه «المنظومة» الاجتماعية إلى إشاعة روح عامة في المجتمع، تبلورت حول خلق قدر كبير من التفاؤل الاجتماعي، وحركت الكثير من قدرات المجتمع وطاقاته ومهارات العديد من أبنائه، نحو ابتكار أشكال جديدة من العمل التطوعي، بما كشف ويكشف باستمرار، عن أصالة إنسان المجتمع السعودي ومواطنيه، وأريحية أفراده وجماعاته، على نحو يبعث على التفاؤل والاستبشار والاطمئنان، إلى قدرة الأعمال الخيرية «كباعثة» على تطوير حاضر المجتمع، و»دافعة» إلى تقدمه.
ولقد كان دعم سلمان للعمل «التطوعي» واهتمامه الشخصي به، والذي بلغ حد الإشراف اليومي المباشر» على الكثير من الجمعيات الخيرية، دافعاً إلى حشد طاقات الخير، ليس في الأوساط المعنية بالعمل الاجتماعي والتطوعي فحسب، بل وفي غالب فئات المجتمع السعودي، وفي مقدمتها «للحق والموضوعية والإنصاف» مجتمع رجال المال والأعمال، حيث مثَّل لهم «أداء» سلمان في هذا المجال «نبراساً» في وسائل وأساليب خدمة المجتمع، كما مثَّل لهم «منهج» سلمان في هذا المجال «قدوة» في الخدمة العامة «اقتفوا» أثرها، «وتسابقوا» في متابعة آثارها ونتائجها والعمل بها، ما أسفر عن الكثير من مبادرات مجتمع رجال المال والأعمال، التي صبت -ولله الحمد والمنة - في خدمة الوطن. في ضوء هذه النظرة، نستطيع أن «نتأمل» أهداف العمل الإنساني والخيري ومشروعاته التي حظيت بعناية واهتمام خاص من سلمان، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد «الإنساني» وذلك منذ مطلع شبابه -حفظه الله- وبالتحديد منذ (1956) وإلى وقتنا الحاضر.
فقد بدأت رحلة الملك سلمان مع العمل الإنساني متعدد الجوانب منذ عام (1956) عندما ترأس لجنة لجمع التبرعات وإرسالها إلى المتضرّرين من العدوان الثلاثي على مصر. وفي العام نفسه، رأس لجنة أخرى لجمع التبرعات للشعب الجزائري. وفي (1967) ترأس اللجنة السعودية الشعبية لمساندة مجاهدي فلسطين، تلتها رئاسته للجان عديدة لإغاثة منكوبي كل من باكستان (1973) وأفغانستان (1980) والمتضرّرين من كوارث السيول في السودان (1988) ولمساعدة المواطنين الكويتيين أثناء الاحتلال العراقي للكويت عام (1990). وفي عام (1991) ترأس سلمان اللجنة المحلية لتلقي التبرعات للمتضرّرين من فيضانات بنغلاديش.
ولم تكن كل تلك الأعمال التطوّعية، سوى نماذج وأمثلة لاهتمامه الواسع وغير المحدود -سلَّمه الله - بتعظيم «قيمة» الخدمة التطوعية، وتأكيد «قيمة» المشاركة المجتمعية والمسؤولية الاجتماعية في ترسيخ التكافل بين أبناء المجتمع الواحد، ثم بين الإنسان والآخرين من أبناء الإنسانية، وهو مبدأ «ثابت» من ثوابت أدائه وطنيًا وإقليميًا ودوليًا.
إذن، فالعمل الخيري لدى «سلمان» لم يقتصر على أدائه داخل المملكة فحسب، بل امتد إلى خارجها، وشمل رئاسته -حفظه الله- للعديد من اللجان والهيئات الرئيسية الدولية والمحلية، لجمع التبرعات لمساعدة المحتاجين والمتضرِّرين، جراء الكوارث الطبيعية والإنسانية، على المستويين العربي والإسلامي، بجانب مناصرته ودعمه لجميع قضايا العالم الإسلامي، المختلفة والمتعددة.
ومن هنا، اتسع مجال عطاء الملك سلمان ليشمل «خريطة» واسعة من الأعمال الإنسانية على المستوى «النوعي» و»الكمي» وبامتداد «جغرافي» لا تحده حدود في علاقته «بالإنسان «و»الإنسانية».
وقبل ما قيل كله، نجده من الأهمية بمكان الإشارة إلى حقيقة أن سلمان بن عبدالعزيز قد تربى في بيت القائد المؤسس، الذي غرس القيم الإسلامية في «وجدانه»، وزرع نهج الإسلام في «فؤاده».
ومن هنا، أعطى سلمان الأعمال الخيرية والإنسانية كل الاهتمام، فسجّل بذلك الكثير من المواقف «الخالدة» التي شكلت «منهجاً» للعاملين في مجالات العمل الإنساني، خاصة ما يتقاطع منها مع العمل «التنموي» الذي يتفاعل مع محيطه، نتيجة للتأثير المتعاظم والمتجذّر للقيم الدينية في المجتمع.
ونختم بالقول، إن الأمير سلطان بن سلمان، الذي أناط به المقام السامي الكريم مهمة رئاسة مجلس أمناء «مؤسسة الملك سلمان غير الربحية»، يمثِّل شخصية كانت تمتلك خبرة عملية ومهنية «أصيلة ورائدة» في العمل الإنساني. وقد نتج عن تلك الريادة في العمل الخيري التطوّعي الإنساني لسموه، الكثير من التكريم على المستوى الوطني والإقليمي والدولي والعديد من الأنواط والأوسمة والدكتوراه الفخرية.
وكثيرًا ما يردد سموه أن «هذه البلاد المباركة قامت على منهج صنع لنا وطنًا قويًا متماسكًا ومستقرًا، وفر لنا بيئة داعمة ومحفزة للعمل الخيري» منوهًا بأن «الشراكات الإستراتيجية التي تمت بين المؤسسات الخيرية التي يشرف عليها سموه ومؤسسات القطاع الخاص، تعكس «الثقة المتبادلة والإيمان المشترك بأهمية تكامل الجهود لخدمة المجتمع».
يذكر أن سمو الأمير سلطان -سلَّمه الله - كان قد فاز بجائزة «شخصية العام 2016 الخليجية» الداعمة للعمل الإنساني، وهي الجائزة التي حملت اسم قائد الإنسانية، الشيخ صباح الأحمد الصباح أمير دولة الكويت -تغمده الله بواسع رحمته- كونها تعد أول جائزة متخصصة في مجال العمل الإنساني الحكومي والرسمي من جهة، وتعكس الجهود الخيرية والإنسانية لأبناء دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية ممن ضربوا الأمثلة في العطاء الإنساني.
وحيث يشدّد الأمير سلطان بن سلمان دوماً، على أهمية العمل الإنساني وعلى ضرورة استمرار المجتمع السعودي في غرس محبة الأعمال الإنسانية في نفوس الجيل الحالي من الأبناء، فان الكاتب، ويشاركه الكثيرون، يستشعرون نجاحًا كبيرًا لـ»مؤسسة الملك سلمان غير الربحية» نجاحاً يجعل منها منارة إنسانية مضيئة، بناء وعطاء وتنمية، كيف لا، والعمل الإنساني في بلادنا، يحمل -ولله الحمد والمنة - فكراً مؤسسياً نيّراً ناضجاً، سوف يستمر في إعطاء هذا الوطن ميزة ومكانة استثنائية على كل المستويات وجميع الأصعدة. تقبل الله عطاءات الملك سلمان الإنسانية، وكتب للأمير سلطان التوفيق والسداد.