يدرك المشتغلون بالدرس النقدي بأن هناك صعوبات تنشأ عند محاولة الفصل بين جملة الأجناس الأدبية، وهذا الصعوبة يمكن ردها لحقيقة أن العلوم الإنسانية تتسم بالتداخل في بنيتها الأساس، بحيث يبدو في بعض الأحيان وكأن هناك ضبابية في الحدود الفاصلة بين كل جنس وآخر. ويعدُّ هذا أمرًا طبيعيًا في النسق الوجودي للعلوم، فلو جربنا تأمل العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والفيزياء على سبيل المثال، سنجد بأنها تقوم على نظرية المنطق العقلي غير القابل للتحول. فقوانين الحركة في علم الفيزياء معروفة، وآلية إجراء العمليات الدقيقة في علم الطب محددة، وهلم جرًا.
في حين نجد أنه على النقيض من ذلك، تأتي العلوم الإنسانية -التي يندرج تحت إطارها العريض الأدب- لتمثل إشْكالًا تداخليًا، نتاج كونها في حقيقتها مجرد مقاربات فكرية تدور في فلك الجدليات القابلة للنقض في سياق التطور الفكري التاريخي.
أما الأمر الآخر لتولد صعوبة الفصل بين الأجناس الأدبية فيمكن رده، للطابع الإشكالي الذي يسم ما هيتها، بالإضافة لاحتكامها إلى نظريات ومنهجيات متنوعة ومتعددة ووجهات نظر مختلفة، الأمر الذي أوجد صعوبة في وضع حدود فاصلة بين مجمل هذه الأجناس الأدبية.
وهو ما عبَّر عنه بجلاء الصادق قسومة حين قال إن الجنس يثير ضروباً من القضايا في الأدب بالذات، وكانت ماهيته ضرورة لما يكتنفها من ظلمة كما أنها مدار خلاف كبير بين الغربيين أنفسهم، إذ حيناً عدّوه نتاج تدبر وصفي وعدوه حيناً آخر سنناً من قبيل التقعيد وهربوا حيناً ثالثاً من تعريفه إلى متابعة أطواره التاريخية.
ويأتي على رأس هذه الأجناس التي تلتحف إشكالية الفصل وتنحو للتداخل مع الأنواعيات والأجناس الأدبية الأخرى؛ جنس السيرة الذاتية الذي يعد حاويًا لأكثر من جنس أدبي ومنفتحاً عليه. إذ تتداخل السيرة الذاتية مع أشكال من البوح الشخصي يمكن حصرها فيما يعرف بالمذكرات Notes، والاعترافات Confessions، وكذلك اليوميات A diary.
بل إن هذا التداخل الفاعل للسيرة الذاتية مع هذه الأنواعيات الأدبية الأخرى نجده يمتد ليطال حتى أجناس أدبية أخرى لا يوجد لها ارتباط مباشر بالسيرة الذاتية من ذلك الرواية الأدبية. وهو ما يبرز لنا بجلاء بأنه حتى مسألة التفريق بين الأنواع البنائية المشكلة للجنس الأدبي الواحد، لا يعد بأي حال من الأمور السهلة السلسة، حتى أن الباحث الأدبي باسكال في محاولته التفريق بين السيرة والمذكرة، نجده يعترف صراحة بصعوبة وضع حدٍّ فاصل بينهما.
بيد أننا لو جربنا تناولنا نوعين من البوح الشخصي وأعني بهما السيرة الذاتية والمذكرات وسعينا لمحاولة ضبط الفواصل الأنواعية بينهما، فقد ننجح في ذلك إلى حد ما في وضع خصائص ذات طابع مظهري قد تساعدنا -إلى حد ما- في سعينا المحموم لبناء فواصل وإنْ كانت هشة أحياناً بين هذين الأنواعيين. إذ يمكننا -على سبيل المثال- في قضية السيرة الذاتية والمذكرات أن نقول إن السيرة الذاتية تعد تشكيلاً نصياً يمثل صيغة سردٍ تحكي ماضياً متصلاً حيناً ومتقطعاً حيناً آخر، في الوقت الذي يمثل فيه نص المذكرات؛ مدونات لها قوة الوثيقة التي لا يمكن بأي حال تعديل زمنها.
فالسيرة الذاتية كما نعلم تعتمد في تشكيلها على المنظور الاستعادي في القص، لكون الراوي يعود لماضيه في لحظته الآنية. في حين تعتمد المذكرات في تشكيلها على اللحظة الآنية دون الحاجة إلى المنظور الاستعادي إلا فيما ندر وتحديدًا في القليل من التجارب التي يعمد فيها الكاتب لتوظيفها في النص من أجل الوصول للفكرة. لذا فإن كاتب المذكرات عادة يلتزم بالتسجيل والتوضيح لما يدور حولها أما ما يدور داخلها فيظل في الظل.
في حين عند تناولنا لقضية التداخل في حالة السيرة الذاتية واليوميات، والعمل على التمييز بينهما فإننا نلحظ بأنّ معامل التمييز بينهما يتشكل للعيان من خلال تبني مقاربة مفادها أن اليوميات تنهض على دقة الملاحظة في رصد حركات العالم الخارجي والأنا وتموجاتها في رؤاها ومواقفها للوجود وللإنسان، فهي تحدث على نمط وشكل متقطع وغير رتيب وبدون تخطيط واعٍ. بحيث إنّ كاتب اليوميات يسجل من خلالها اتجاهاته الدائمة التغير في عصر تجري فيه الأحداث بسرعة متلاحقة.
في حين يتشكل الفرق البيني في قضية التعالق الأنواعي بين جنس السيرة الذاتية والاعترافات، بإدراك أن الاعترافات لها وضع خاص يفرقها عن السيرة، ويتمثل بكونها -أي الاعترافات- تمتاز بالجرأة في الكشف والتعري والتمرد على البنى الدينية والاجتماعية والأخلاقية والسياسية كذلك. بحيث أن كاتبها يعمد لنقد عالمه الخارجي ومن ثم يعمل على تحقيق رغبته الذاتية التي تتحول من قناعة إلى أخرى بكل شفافية وصراحة ووضوح.
أي أن الاعترافات في جانب كبير منها تهتم بعرض حالات الشعور الذاتي من خلال لوحات يقص فيها المؤلف أطوار من حياته سواء أكان ذلك باسمه مباشرة أو يعمد لعرض ذلك تحت اسم مستعار وبأسلوب أقل ما يوصف بأنه يتجه مباشرة إلى القلب لا إلى العقل.
** **
- د. حسن مشهور