على الرغم من كثرة الكتب المصنفة في علم التحقيق إلا أنه ما زال علمًا فتيًا، يستدعي بعض مسائله مزيدًا من التحرير والتدقيق، ومن تلك المسائل التي وقفنا عليها مصطلحًا الورقة واللوحة التي شابهما شيء من التداخل والاضطراب، ولم يهتد فيهما الدارس إلى الجادة والصواب؛ فكانت هذه الكلمات التي نرجو الله -جل وعز- أن يحقق بها مغيا كل طالب، وينفع كل باحث وراغب. إنه ولي التوفيق.
أولاً: الورقة واللوحة في دائرة اللغة:
الورقة: الواو والراء والقاف: أصلان يدل أحدهما على خير ومال، وأصله ورق الشجر، والآخر على لون من الألوان.
فالأول الورق ورق الشجر.
والورق: المال، من قياس ورق الشجر؛ لأن الشجرة إذا تحات ورقها انجردت كالرجل الفقير.
قال العجاج:
إليك أدعو فتقبل ملقي
واغفر خطاياي وثمر ورقي
وورقت الشجر: أخذت ورقه.
وقولهم أورق الصائد: لم يصد، هو من الورق أيضا؛ وذلك لأن الصائد يلقي حبالته ويغيب عنها ويأتيها بعد زمان وقد أعشبت الأرض وسقط الورق على الحبالة فلا يهتدي لها، فلذلك يقال أورق، أي: صادف الورق قد غطى حبالته.
ثم كثر هذا حتى قيل لكل من طلب حاجة ولم يصبها: قد أورق.
والورقة، بسكون الراء: ابنة في الغصن خفية.
فأما الورقة التي هي قطعة من الدم فجمعها ورق، هي على معنى التشبيه بالورق الذي يتساقط.
والورق: الرجال الضعفاء، شبهوا في ضعفهم بورق الشجر.
والأصل الآخر: الورقة: لون يشبه لون الرماد.
وبعير أورق وحمامة ورقاء، سميت للونها، والرجل كذلك أورق.
ويقولون: عام أورق، إذا كان جدبا، كأن لون الأرض لون الرماد.
وسمي عام الرمادة لهذا(1).
وقال الدكتور محمد حسن جبل: «ورق الكتب محركة: معروف.
وورق الشجر: كل ما تبسط تبسطًا وكان له عير -عرق صلب- في وسطه ينتشر عنه حاشيتاه.
واحده ورقة.
والورق كذلك أدم رقاق منها ورق المصحف أي: صحفه»(2).
ثم حدد معناه المحوري بقوله: «طبقات رقاق عراض لطيفة -ناعمة طرية- تتولد وتكسو»(3).
يلاحظ على هذا المعنى المحوري للأصل (ورق) التولد والازدياد، والكسو والتغطية والإخفاء.
واللوحة: اللام والواو والحاء أصل صحيح، معظمه مقاربة باب اللمعان.
يقال: لاح الشيء يلوح، إذا لمح ولمع.
والمصدر اللوح.
ويقال: ألاح بسيفه: لمع به.
وألاح البرق: أومض.
واللياح: الأبيض.
قال ابن دريد في قول ابن أحمر الباهلي:
تمسي كألواح السلاح وتضحي
كالمهاة صبيحة القطر
إن الألواح: ما لاح من السلاح، وأكثر ذلك السيوف.
ومن الباب لوحه الحر، وذلك إذا حرقه وسوده حتى لاح من بعد لمن أبصره.
ومن الباب اللوح: الكتف.
واللوح: الواحد من ألواح السفينة; وهو أيضا كل عظم عريض.
وسمي لوحا؛ لأنه يلوح.
ومن الباب اللوح بالضم، وهو الهواء بين السماء والأرض(4).
وقال الدكتور محمد حسن جبل: «اللوح بالفتح: كل صفيحة عريضة من صفائح الخشب، والذي يكتب عليه، وكل عظم فيه عرض، كاللوح بمعانيه {... وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ...} (الأعراف:150)»(5)، راسماً المعنى المحوري لأصله بقوله: «عرض ظاهر الشيء واستواؤه مع جفاف أو صلابة: وعرض الظاهر واستواؤه يلزمه زيادة ظهوره ولمعانه: لاح النجم: بدا وألاح: أضاء وبدا وتلألأ واتسع ضوءه، وكذلك السيف والبرق والرجل.
أما اللوح بالضم والفتح: الهواء بين السماء والأرض، فمن أنه شفاف يلوح الأفق من خلاله فهو بمعنى ملوح من خلاله»(6).
وهي معان تكاد تنحصر في العرض والظهور.
ثانياً: الورقة واللوحة في دائرة الاصطلاح:
تبين لنا من تتبع آراء العلماء، واستعمالات الباحثين في تحقيقاتهم أنهم يستعملون مصطلحي الورقة واللوحة مترادفين، من غير أن يعتدوا بشيء في التمييز بينهما.
فنجد أنهم يعرفون الورقة بأنها ما «لها صفحتان، وجه وظهر، يمكن الكتابة أو الطباعة على أحدهما أو كليهما»(7).
أما اللوحة فهي «كل صحيفة عريضة خشبا كانت أو عظما أو غير ذلك»(8).
فيتداخل بذلك استعمالاتهم في التطبيق، فيشيرون إليها بالورقة تارة، وباللوحة تارة أخرى.
ثالثاً: الورقة واللوحة في دائرة الاقتراح:
ارتأينا أن نقترح تعريفا جامعا مانعا لكل منهما، فنقول: (الورقة: هي صفحتا الوجه والظهر المتخالفتان).
فقولنا: (الوجه والظهر) تخرج به اللوحة؛ لأنها تتكون من الظهر والوجه.
وقولنا: (المتخالفتان)، أي: المتعاكستان اللتان تكون إحداهما خلف الأخرى وعكسها.
وبه يخرج ما يتوهم أنه ظهر في المخطوطات التي كتب على وجهها دون ظهرها؛ إذ المعتد به هي الصفحة سواء كتب عليها أم لم يكتب.
(واللوحة: هي صفحتا الظهر والوجه المتجاورتان).
قولنا: (الظهر والوجه) تخرج به الورقة؛ لأنها تتكون من الوجه والظهر.
وقولنا: (المتجاورتان)، أي: إحداهما بجوار الأخرى، وبه تخرج الورقة التي قلبت صفحتاها على الناسخ تقديما وتأخيرا.
والصفحة هي إحدى دفتي الورقة أو اللوحة، وهي إما وجه أو ظهر، ويعرف الوجه من الظهر بإحدى الطريقتين: الأولى: طريقة التعقيبة التي هي «الكلمات الأولى من وجه ورقة، والمثبتة في أسفل ظهر الورقة السابقة عليها»(9)، فالصفحة التي فيها التعقيبة هي الظهر.
الثانية: طريقة مسك الورقة بين السبابة والإبهام باليد اليمنى، فما كانت تحت السبابة هي الوجه، وما كانت تحت الإبهام هي الظهر.
أما المعايير التي استندنا إليها في التفريق بين المصطلحين فهي:
1- مراعاة الأصل اللغوي الدقيق لكل من المصطلحين؛ تحقيقا لمبدأ التطابق بين الدلالة اللغوية و الدلالة الاصطلاحية، الذي نادى به الدكتور علي القاسمي وجعله شرطا من شروط وضع المصطلح(10).
فاللوحة كما تقدم هي ما عرض، أي كان عريضا، ولاح للناظر وبان له، ولا يتحقق هذان المعنيان إلا بالقول بأن اللوحة هي الصفحتان-الظهر والوجه- الماثلتان بين يدي الناظر.
أما الورقة فلا تتحقق فيها هذه الدلالات؛ لأن العرض الثابت في اللوحة لا يثبت فيها أولا، ولا تظهر صفحتاها معا ثانيا، فإذا بان الوجه خفي الظهر، والعكس بالعكس؛ لكونهما متخالفتين متعاكستين، فلا يسري عليها إذن معنى اللوحة.
2- الاعتداد بالجذور التاريخية لمصطلح اللوحة التي تدل قديما على «مادة من الطين أو غيره كان يكتب عليها.
وهي اللوحات الطينية التي استعملت للكتابة في وادي الرافدين، وكانت السبب في إيجاد الكتابة المسمارية»(11).
فلم تكن تكتب أو تنقش في هذه اللوحات غالبا إلا على جهتها الظاهرة، فليس فيها إلا ما بان أمامك وظهر لك، وهي دلالة غير متحققة مع الورقة؛ لخفاء إحدى صفحتيها عند ظهور الأخرى؛ لأنهما متخالفتان متعاكستان كما سلف.
3- رسم الخطوط الفارقة بين المصطلحين، وتخصيص كل لفظة بدلالة؛ أمنا للبس وإلغاء للتداخل ومنعا للخلط والازدواجية المتأتية من القول بترادفهما.
رابعا: ثمرة الخلاف
تتجلى ثمرة الخلاف في التفريق بين المصطلحين في ثلاثة مواضع:
1- اختلاف وصف بيانات النسخ المعتمدة في عدد أوراق المخطوط أو لوحاته، فعلى التفريق بينهما يكون عدد الأوراق زائدا على عدد اللوحات برقم، فما كان لوحتين تكون أوراقه ثلاثا، وما كان خمس لوحات تكون أوراقه ستا، وهلم جرا.
2- اختلاف الإشارة في منهج التحقيق إلى صفحات المخطوط أو لوحاته، فما يشار إليه على أساس اللوحات بـ(2/ظ)، يشار إليه على أساس الأوراق بـ(3/ظ).
3- اختلاف ترقيم المخطوط الأصل المعتمد في صلب النص المحقق، عند الإشارة إلى نهاية كل صفحة على النحو الذي سبق في منهج الإشارة إليها.
والله أعلم.
- - - - - - - - - - - -
الهوامش:
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة: 6/ 11 -112.
(2) (3) الم عجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم: 2/ 837 -838.
(4) انظر: معجم مقاييس اللغة: 5/ 220.
(5) (6) المعجم الاشتقاقي المؤصل لألفاظ القرآن الكريم: 4/ 1960- 1961.
(7) (8) معجم مصطلحات المخطوط العربي: 385.
(8) معجم مصطلحات المخطوط العربي: 307.
(9) المدخل إلى علم الكتاب المخطوط بالحرف العربي: 167.
(10) انظر: مقدمة في علم المصطلح: 5.
(11) معجم مصطلحات المخطوط العربي: 307.
** **
- صفاء صابر مجيد البياتي