أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
أشرنا في المساق السابق إلى أنَّ (الفرزدق) كان يستنكف من أن يبكي امرأته، أو أن يشاع عنه مثل ذلك، نافيًا بعنف ما عيَّره به (جرير) من هذا الأمر الفاضح! مع أنه كان يفاخر بجَدِّه (صعصعة بن ناجية)، «مُحْيي الوئيد»، أي مستنقذ البنات من الوأد. فقد رُوي عن صعصعة أنه قال للرسول، عليه الصلاة والسلام:
- «يا رسول الله، إنِّي عملتُ أعمالًا في الجاهليَّة، فهل لي فيها من أجْرٍ؟
- قال: ومَا عَمِلَتَ؟
- قلتُ: ضَلَّتْ نَاقَتَانِ لِي عشراوان، فَخَرَجْتُ أُبْغيهِما على جَمَل لِي، فَرُفِعَ لِي بَيْتَانِ في فَضَاءٍ مِنَ الأَرْضِ، فَقَصَدْتُ قَصْدَهُمَا، فَوَجَدْتُ في أَحَدَهِمَا شَيْخًا كَبِيْرًا، فَبَيْنَمَا هُوَ يُخَاطِبُنِي وَأَخَاطِبُهُ، إِذْ نَادَتْهُ امْرَأَةٌ:
- قَدْ وَلَدْتُ.. قَدْ وَلَدْتُ..
- قال: وَمَا وَلَدْتِ؟
- قَالَتْ: جَارِيَة.
- قَالَ: فَادْفِنِيْها.
- فَقُلْتُ: أَنَا أَشْتَري مِنْكِ رُوحَها، لاَ تَقْتُليها.
فَاشْتَرَيْتُها بِنَاقَتَيَّ ووَلَدَيْهِما، والبَعِيْرِ الذي تَحْتِي. وظَهَرَ الإِسْلَامُ وقَدْ أَحْيَيْتُ ثَلَاثَ مِئَةٍ وسِتِّيْنَ مَوءُودَةً، أَشْتَرِي كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِنَاقَتَيْنِ عشراوَيْنِ وجَمَل؛ فَهَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ؟
- فَقَالَ رَسُولُ الله، صَلَّى الله عليه وسلم: هذا بَابٌ مِنَ البِرِّ، لَكَ أَجْرُهُ؛ إِذْ مَنَّ الله عَلَيْكَ بِالإِسْلَامِ.»(1)
ففي هذا جاءت أبيات (الفرزدق)(2):
• فَهَذي حُدَيَّا الناسِ فَخرًا عَلى أَبي
أَبي غالِبٍ مُحيِي الوَئيدِ وحاجِبِ
• ومِنَّا الَّذي مَنَعَ الوائِداتِ
وأَحيا الوَئيدَ فَلَم يُوأَدِ
• أَنا ابنُ الَّذي أَحيا الوَئيدَ ولَم أَزَل
أَحُلُّ بِهاماتِ اللَّهاميمِ مِن مُضَرِ
• ومِنَّا الَّذي أَحيا الوَئيدَ وغالِبٌ
وعَمروٌ ومِنَّا حاجِبٌ والأَقارِعُ
• ومِنَّا الَّذي أَحيا الوَئيدَ ولَم يَزَل
أَبِيًّا عَلى الأَعداءِ أَنْ يَتَهَضَّما
ولكن ماذا عن (جرير بن عطيَّة)؟
لم يكن بأحسن حالًا كثيرًا من الفرزدق، وإنْ عُرِف بتديُّنه وعاطفته الجيَّاشة نحو النساء. نعم، كثيرًا ما يُستشهَد بقصيدته المشهورة في رثاء امرأته، على أنها نموذجٌ رائعٌ للعاطفة الإنسانيَّة في رثاء الزوج، ومن ثَمَّ أنها تمثِّل خطابًا إيجابيًّا حيال المرأة. فهل كانت كذلك حقًّا؟
الحقُّ أنها، عند التأمُّل، ليست بكذلك. فجرير يُعلن موقفه منذ المطلع، بقوله:
لَولا الحَياءُ، لَعادَني استِعبارُ
ولَزُرْتُ قَبرَكِ، والحَبيبُ يُزارُ
ترى ممَّ الحياء، يا جرير؟
هو في هذا المطلع يصرِّح أنه لن يستعبر على امرأته، فضلًا عن أن يبكيها، ولن يزور قبرها، على الرُّغم من أنَّ قبور الأحبَّة تُزار عادةً! لن يفعل لا هذا ولا ذاك، والعياذ الله! وإنْ كانت المرأة تستحق الاستعبار والزيارة، كما سيُعقِب بيته الأول. والسبب: (الحياء).
الحياء ممَّ، يا ابن عطيَّة؟
أسَمِعنا شاعرًا يذكر أنه لن يبكي قريبًا عزيزًا، ولن يزور قبره، بسبب الحياء؟!
لو قال هذا، لكان قوله هجاءً جارحًا جِدًّا.
إنَّ الحياء هنا هو من المجتمع الذكوري، الذي يَعُدُّ من العيب بكاء النساء، أو زيارة قبورهن. وقد مَرَّ بنا- في مساق سابق- ما نُسِب إلى (عمر بن عبد العزيز) في ذلك، حتى في شأن التعزية في النساء، وأنه كان يَصُدُّ المعزِّين، ويطلب إليهم أن يقلبوا وجوههم عنه! فكيف بما فوق التعزية، من البكاء، أو الرثاء، أو زيارة القبر؟! كما رأينا ما كان يقوله (البحتري)- ذو العمودَين: عمود التقاليد الشِّعريَّة، وعمود القِيَم الجاهليَّة-:
ولَعـَمْري ما العَجْـزُ عِنديَ إلَّا
أنْ تَبيتَ الرِّجالُ تَبكي النِّساءَ!
أ فحقًّا، إذن، كان جرير في قصيدته «لولا الحياء» يكسر النموذج السَّلبي في الموقف من المرأة؟!
كلَّا، وذلك لما يأتي:
1- بيته الأوَّل يُثبِت أنَّه لا يستطيع أصلًا، ولا يجرؤ. وأنَّ (الحياء) يمنع من (البكاء) أو الزيارة؛ فالسُّلطة المجتمعيَّة أقوى منه، ومن امرأته، وممَّا بينهما من شؤون وشجون، مهما بلغت.
2- عبارة «لو»، أو «لولا»، تتردَّد في مثل هذا السياق عند أولئك الشعراء- وسنقف عليها تاليًا عند (المتنبي)- إزاء بعض ما يحاول الشاعر أن يجد له مَخرجًا، أو مُسوِّغًا استثنائيًّا، ليقف موقفًا إنسانيًّا إيجابيًّا من المرأة، على الأقل عند موتها. وهي عبارة تأتي بمثابة اعتذارٍ عن تخطِّي الأعراف الاجتماعيَّة، أو محاولة تخطِّيها، للقول إنَّ الشاعر إنَّما يقف أمام امرأةٍ استثنائيَّة، لا يُقاس عليها: (أُمِّ حزرة)، أو (أُمِّ سيف الدولة)! وإلَّا فهو ملتزم، ومع الجماعة، على طول الخط، على الخير والشر، وال حقِّ والباطل، في مجتمعٍ لا يعترف بالفرديَّة مطلقًا، ومَن اقترف الفرديَّة، تصعلك.
3- لقد عيَّر جريرٌ الفرزدقَ لما أُشيع من بكاء زوجه (حدراء) وهجاه بذلك. وهذا الهجاء يؤكِّد ما قلناه أعلاه. وهو ما دفع الأخير لإعلان البراءة من ذلك العار، الذي ألصقه به جرير. قائلًا:
يقولُ ابنُ خِنْزِيْرٍ: بَكيتَ، ولم تكُنْ
على امرأةٍ عَينيْ، إخَالُ، لِتَدْمَعا
فماذا فعل جرير؟
أعلن هو الآخَر التزامه باحتقار المرأة، وأن بكاءها أو زيارتها يحول دونهما سَيف الحياء، والالتزام بما تقتضيه رجولة الرجال. ومع هذا فهو يعترف بمنزلتها، ويُثني عليها، من حيث الأصل والفصل، والأخلاق، ثناءً قَبَليًّا، أشبه بالثناء على آبائها منه بالثناء عليها هي، ولذاتها. وفي المساق التالي سنفصِّل القول في أسباب إطالة جرير في ذلك.(3)
- - - - - - - - - - - - -
(1) ابن الأثير، (د.ت)، أُسد الغابة، تحقيق وتعليق: علي محمَّد عوض؛ عادل أحمد عبد الموجود، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 3: 23.
ويُلحظ أن الكتاب- مع كثرة من قام عليه من المحقِّقين والمعلِّقين والمقدِّمين والمقرِّظين- حافل جدًّا بأخطاء ظاهرة في الضبط بالشكل! وهذا من غرائب المطبوعات المعاصرة.
(2) الفرزدق، (1987)، ديوان الفرزدق، شرح: علي فاعور، (بيروت: دار الكتب العلميَّة)، 41، 155، 287، 360، 623.
(3) هذا المقال جزء ثالث من ورقة بحث حِواريَّة قُدِّمت في (الصالون الثقافي بنادي جدة الأدبي الثقافي)، مساء الأحد 28 فبراير 2021، بإدارة: (الشاعرة جواهر حسن القرشي). للمشاهدة على موقع «اليوتيوب»: https://youtu.be/oIxP87fdTqA
(*) تنويه: أعتذر عمَّا ظهر به مقالي المنشور الأسبوع الماضي من تنسيق عجيب في «المجلة الثقافيَّة»، ولاسيما الآية الكريمة، وأبيات البحتري؛ مع أن المقال لم يكن كذلك في الأصل الذي أُرسل للنشر.