الجسم الباحث عن شهواته والعالق في هذا الكون الفسيح بات عائقاً لعمليات الإدراك، ولكنني في لحظة تجلٍّ استطعت التخلص من ذاك العائق وهربت إلى عزلة استمرت أكثر من أربعة أشهر، لم أكن أمتلك سوى قلب وعقل وجسد مهمل استحال إلى وعاء يحوي الذكريات والأحلام، ولم يسعفني في تلك العزلة سوى مخزون معرفي وتجارب، وبيئة عشت فيها، وحياة عايشتها نتج عنها ذكريات وقصص، وأثناء ذلك خطر ببالي عدة خواطر منها: ماذا لو بقي جسدي حيث مراتع الطفولة؟! ماذا لو كنت مخلوقاً في عصرٍ قديمٍ لا يدرك فيه الإنسان سوى احتياجاته الأساسية؟! هل ستكون لدي نفس الأفكار والإيمان؟! كان السؤال الغامض يختبئ في مكان قصي في جوفي ولكنه ظهر مبتوراً: كيف تتولد الأفكار؟ وهل هناك وجود كلي يتراءى لنا من خلاله الإيمان؟
خرجت من عزلة التأمل تلك إلى مائدة الفكر والثقافة كنت نهماً للغاية واخترت من أطعمة الثقافة ألذها وأزكاها وكان في مقدمة ما قرأت كتاب «القلب المؤمن وهل يلحد القلب» للمفكر الكبير د. عبدالله الغذامي. وبعد أن فرغت من قراءة الكتاب ما فتئت أتساءل: هل نسي الغذامي أننا أيضاً من ضمن موضوعات تفكيرنا؟!
يحاول «الغذامي» في كتابه «القلب المؤمن» أن يتربع فوق عرش الفكرة، يجعل من نفسه مقياساً لكل شيء ومنها ينطلق في تفسير المبادئ البشرية باحثاً عن الصفاء الروحي ليقتنص الحقيقة من خلال ما أسماه بالقصص العصية على النسيان التي تُغذي القلب بالإيمان من خلال انفعال شعوري يتسق معه العقل وحينها يحدث ما أسماه الاستدلال العقلي الوجداني، ولكن هل أجاد ذلك؟ هل استطاع تشكيل استنتاج صحيح؟
أم إن كل ما فعله هو السير في دهاليز «جان جاك روسو» مع إضافة بُعد رابع؟
كانت صدمة بالنسبة لي وأنا أرى «الغذامي» يتتبع خُطى «روسو» في «اعترافاته»، والفرق أن الغذامي لم يقل كل شيء كما فعل روسو بل قام بترجمة ذاتية حاول من خلالها البرهنة على فكرته دون أن يعطي أدلة أو براهين، سَطر أحاسيسه في عدد من قِصصه وأجبرها إجباراً أن توافق ما يريد من تواؤم بين العقل والقلب ليحصل على الإيمان ومن ثم الطمأنينة وربما كان هذا التوافق نتاج طريق شاق في أرض الشك وليس بالضرورة أن ذاك التوافق يُنتج الإيمان فيذكر «ديفد هيوم» مثلاً أن توافق الشعور والتفكير يحدث في حالات خاصة جداً كالنوم والجنون وحالات تكون فيها العواطف عنيفة جداً فيحدث الحزن وقد يحدث الانتحار، وبالطبع فإن «هيوم» يُوعز التفكير للعقل لا القلب.
أما «روسو» فإنه وضع قاعدة في كتابه «دين الفطرة» بعد أن وضح حالة القِس الذي كان يعاني من أفكار مضطربه عن سر الوجود بسبب تأمله الدائم ليقول جملته الشهيرة: «ما اطمأن له قلبي من دون تردد اعتبرته حقيقة بديهية».
ويؤكد «جان جاك روسو» على أن الشعور يؤيد الدين وعليه يجب أن نثق بشعورنا بدلاً من أن نستسلم إلى يأس الشك الذي سيقودنا له العقل.
ورغم ذلك يظهر جلياً موقف «روسو» الملتبس بين مصدر الإيمان وهل هو قلبي أم عقلي ولكنه في النهاية يجمع بين الشعور والعقل ليُدرك حقيقة ذاته أولاً وليحصل على الطمأنينة المتولدة عن الإيمان، ويتم بذلك نظرته للإنسان على أنه مشروع متكامل ذو أبعاد ثلاثة: دينية وسياسية وأخلاقية.
ولكن «الغذامي» لا يلتبس عليه الأمر فحسب بل إنه طرح تجربته الشخصية فقط دون أن يتعمق في الطبيعة البشرية، كان شعورياً إلى حد أنك تجبر أن تنحي العقل جانباً كي تستمر في القراءة.
قدم القلب على العقل ونسب له الأفكار دون أن يبين كيف تولدت تلك الأفكار عن القلب.
في بادئ الأمر اعتقدت أنه اتبع «فولتير» الذي يقر بأن منشأ الأفكار يمر بمراحل عدة تبدأ مع المدركات الحسية ولاسيما أن «الغذامي» يعتمد على القصص التي تحدث للشخص وهذه القصص بلا شك جاءت من أحداث خارجية ولكن ما إن واصلت القراءة حتى وجدته يوافق «روسو» في بعض أطروحاته بأن الدين ذو طبيعة فطرية قابلة للحدس وهذا المنهج اتبعه «مالبرانش» و«باسكال» و«ديكارت» أيضاً، وعند «الغذامي» يظهر هذا النهج في قصة الشاب الملحد مع الشيخ «التويجري» ولُب القصة هو ما قاله الشيخ للشاب إن إيمانك يطاردك هو خلفك تماماً!
يُعرف «الغذامي» الأفكار القلبية بأنها ناتجة من قِصص عصية على النسيان استقرت في القلب دون أن يوضح مصادر تلك القصص وهل لها ارتباط بقابلية القلب للإيمان، كما أنه يُعرف الإيمان بأنه توافق بين أفكار القلب مع أفكار العقل.
وأختلف كثيراً مع د. عبدالله الغذامي فأرى أن الإيمان يتولد من المُدركات الحِسية والانسجام الكامل مع البيئة ومن ثم فإن القلب مزود بالفطرة التي تؤكد على وجود خالق وكل هذا يجعل من الأسئلة الوجودية طريقاً للإيمان. من أين جاء الكون؟ لتكون الأفكار عبارة عن ترتيب للإجابة الحقيقية الموجودة مسبقاً وبهذا فإن الإنسان كائن ذو فطرة إيمانية.
هل يختلف إيمان إنسان العصور القديمة عن إيمان الإنسان الحديث؟
هل يختلف إيمان مثقف عن إيمان شخص سطحي؟
يقول» الغذامي»: إذن قصصنا هي لغة قلوبنا ونظام تفكير هذه القلوب.
ثم يستطرد بأن هناك خيطاً رفيعاً بين القِصص والأفكار وأن القصة ليست ما يحدث للشخص بل ما يبقى في ذاكرته وتتغلب على النسيان لأن ذهنه اختارها لتبقى! وهو بذلك يشير إلى أن القصص الباقية بها رمزيات ومعانٍ عميقة تحتاج للتبصر كي نجد الحقيقة، وتحت هذه القصص تتغلف الأفكار القلبية. ولعل هذا يشبه إلى حد كبير ما قاله أفلاطون بأن المعرفة تحدث بالتذكر.
ثم يبدأ بسرد القصص التي لا أرى أنها تخدم فكرة الكتاب أبداً فهو لا يوضح من خلال سردها من أين جاء الإيمان، هل هو من الخارج أم من الداخل؟ هل الإنسان عندما يولد يكون مزوداً بمعلومات عن الكون والخالق ولا يحتاج إلا للتفكر والصدق مع الذات كي يستجلب ذلك الإيمان. وكيف يدرك الإنسان نفسه؟
لا نجد إجابات على هذه الأسئلة التي تخطر في بال القارئ وهو يقلب صفحات الكتاب ليجد نفسه في النهاية أنه بداخل دائرة مفرغة.
في أحد فصول الكِتاب يتحدث الغذامي بإسهاب عن الخشوع ويقر بأن الحواس هي المسؤولة عن الخشوع بحيث تنقل مدركاتها إلى الروح فيخشع القلب وتدمع العين، ولكن الخشوع يأتي من الداخل من حضور القلب وإلا لو كان منوطاً بحاسة السمع مثلاً لما احتاج «الغذامي» ليتساءل لماذا يخشع الشخص لبعض الآيات دون غيرها ولماذا يخشع في بعض الأوقات دون الأخرى.
وليدلل على نظرية الاستدلال العقلي الوجداني يفرد فصلاً بعنوان البحث عن الوجود يذكر فيه أنه قرأ كتاب العناصر ورواية الكروان في وقت واحد ويقول بذلك يتحقق معنى الاستدلال ببعديه العقلي والقلبي ولست أفهم كيف يحدث ذلك؟!
يقول: «على أن قراءتي لكتاب العناصر مع رواية طه حسين في الوقت ذاته كشفت لي العلاقة بين الإيمان وليونة القلب وأن الوجدان إذا تحرك تحرك معه العقل وشكَّلا معاً بصيرة إيمانية فيخشع العقل كما يخشع القلب».
ورغم أن هذا القول يخالف ما بدأ به الكتاب فالإيمان - كما يذكر - يتكون عبر قصص حياتية متعددة تخرج على غفلة من الذاكرة دون سابق إنذار وتأتي على شكل أفكار يتلقفها القلب وينسجم معها العقل.
ثم في فصل آخر يرد على «دوكينز» وعلى بقية الملحدين ويبين فساد حججهم بأسلوب متقن ويخلص إلى أن «الإلحاد في كل خطاباته يقوم على النفي دون برهان».
ثم إنه يفصل في مناظرة «لراسل» مع «كوبليستون» وكيف أن «راسل» تجنب كل سؤال عن الكون بوصفه كُلاً مطلقاً في حين تقبّل فكرة البحث عن سبب وجود الجزئيات. ويتحدث الغذامي عن المعاني الكلية وبأنها الحاوي للأجزاء ويقول: «إذ لن يكون الكل دون أجزائه ولن تكون الأجزاء ما لم تتحد في كل يجمعها».
ويذكر الغذامي تجربته في الحوارات عن طريق تويتر مع الشباب الذين لديهم شكوك وجودية وقد أفرد عدة صفحات لقصة شاب مبتعث راسله وأخبره بإلحاده وكما هي العادة لا يضع « الغذامي» أفكاراً أو حججاً بل ينهي هذه القصة بإعجابه بمروءة الشاب.
هذا كان انطباعاً عن كتاب أشعل جذوة الأسئلة في رأسي وحرك الركود في نفسي وجعلني متفاعلاً لا جامداً أبحث وأكتب، فحي هلا بالكتب النابضة وإن لم نتوافق معها.
** **
- سلطان الحويطي