د. فهد بن علي العليان
قبل عقدين من الزمن وأكثر كان اسمه يتردد في أرجاء جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، بل لكأني أراه لابساً (بشته) يمشي الهوينا بكل هدوء وسكينة وتواضع ليدخل مسجد الجامعة من جهته الشمالية متوجها إلى المحراب لإمامة الناس في صلاة الظهر؛ حيث يتقاطر إلى المسجد أرتال من الطلاب والأساتذة وفيهم علماء فضلاء في كليتي الشريعة وأصول الدين وغيرهما من كليات الجامعة، يتوجهون للصلاة خلف إمامهم عميد المعهد العالي للقضاء الأستاذ الدكتور زيد الزيد، الذي شغل عدة مناصب في الجامعة متفانيا في خدمة طلاب الدراسات العليا وتقديم كل طاقته في القيام بالمهام التي أوكلت إليه.
قبل أن ألتقيه وأعرفه عن قرب، سمعت كثيرين ممن عملوا معه واختلطوا به وسافروا معه يتحدثون عن زهده وورعه وأخلاقه العالية بل ثقافته وحبه للقراءة وسعة اطلاعه، ثم جاءت الفرصة – قبل خمسة عشر عاماً - لأكون معه في وفد برئاسته للزيارة والتدريس في دورة علمية مكثفة في مقر الكلية الإسلامية في (جالا) بصحبة أساتذة فضلاء وهم (د. صالح الحسن ود. علي الزبن وأ. ناصر الدهمش)، وأذكر أنه بوصفه رئيسا سافر قبلنا بأيام بصحبة الزميل ناصر؛ وذلك لعمل الترتيبات اللازمة للوفد ولقاء مسؤولي الكلية قبل بدء الدورة العلمية، ثم سافرنا نحن الثلاثة بعد ذلك، ولما وصلنا إلى هناك اجتمع بنا وسلم لنا جدول محاضرات الدورة المكثفة. وعندما بدأنا بالتدريس وتقديم المحاضرات، بدأت أدرك وألمس جديته وحرصه ومتابعته، ثم أصبحنا نذهب للكلية لتقديم المحاضرات في سيارة واحدة، فكان يقضي وقته بما يفيد من مراجعة حفظه أو أحاديث ذات فائدة ومتعة. في تلك الأيام التي تمنيت أنها لم تنته، أدركت عن قرب ومن خلال معايشة ما يتمتع به أستاذنا (أبو خالد) من جدية وحرص في سير جدول الدورة بلا تهاون أو تأجيل، ولمست كذلك مدى ورعه وزهده وبعده عن الدخول والكلام فيما لا فائدة منه أو ما هو غير مباح أو مفيد.
انتهت الدورة بكل أيامها وهو الحريص على سيرها بكل نجاح حتى أنني معه كنا نكتب الأخبار الصحفية لإرسالها إلى الصحف المحلية لتنشر أخبار الدورة؛ للاطلاع على جهود جامعة الإمام في خدمة المجتمع الإسلامي في أرجاء المعمورة. عدنا إلى الرياض، وفي الطائرة بعد إقلاعها لحظت أنه بدأ في صلاة النافلة وتركني مع الزميل ناصر الدهمش نكمل أحاديثنا، عندها سألتني (المضيفة) عن حاله عندما لم يجب سؤالها فقلت لها: هو مع خالقه في هذه اللحظات فانصرفت وهي تنظر إليه متعجبة!.
الدكتور زيد بن عبد الكريم الزيد: أستاذ الفقه المقارن وعميد المعهد العالي للقضاء هو أحد أعلام وفضلاء جامعة الإمام الذي لن تنساه الجامعة ولن ينساه الذين عاصروه واستفادوا من علمه وتجاربه الإدارية. يقول في إحدى تغريداته «التدين ليس معناه أن تقيم الشعائر في نفسك فقط ولكنه أمانة تسلمتها لتقيمها في نفسك وتسلمها لمن بعدك، فإن لم تفعل فقد ضيعت الأمانة، فصلاح أولادك جزء من إقامة شعائر دينك». وإذا كان (أبو خالد) رجل فقه، فإنه كذلك مهموم بالاطلاع والقراءة؛ إذ يقول: «علمتني القراءة، ألا أنخدع بعنوان الكتاب البراق، مهما كان، حتى لو كان تفسيراً للقرآن أو شرحاً لصحيح البخاري. وأن المهم بل الأهم: المؤلف من هو؟!. تعرف على المؤلف، قبل أن تقرأ له؛ لتصون فكرك من الزلل. وكم من كاتب حرّف النصوص، بكتاب عنوانه جذاب!!. ووافق قوله قلباً خالياً فتمكنا!».
أجزم بأن كثيرين ممن عملوا مع (د. زيد الزيد) وعاصروه في محطاته المتنوعة في جامعة الإمام وخارجها لديهم أكثر مما لدي عن الرجل الزاهد المتواضع المحب للعلم المتفاني في نشره. فتحية تقدير واحترام للرجل الذي غادر الجامعة بعد أن خدمها في أماكن متعددة، وأجزم بأنه غادرها وبقيت آثاره وبقي أثره في ردهاتها. نعم، غادر هو المعهد العالي وغادرت أنا الجامعة، وبقيت أتواصل معه من فترة لأخرى على تقصير مني في حقه، ثم أصبحت ألتقيه وأراه في الحرم جالساً يتلو القرآن متهللاً حين يلقى الآخرين بكل محبة ومودة وتقدير.
(التواضع... رفعة)..