سهام القحطاني
«أنا زنوبيا ملكة تدمر، قد غزوت وأقمت وأضعت إمبراطورية.. سيقلل المؤرخون من شأني والرجال من قدري، لأنها أُقيمت بيد امرأة هزّت العالم وأهوت تيجان وعروش وبعثت الرعب في قلوب أباطرة وجنرالات روما..، فبعضهم سيلعن ذكرى أميرة جشعة ضاعت بسبب طموحها والبعض الآخر قد يحتفظ ربما بأسطورة الملكة ذات الفضائل والمزايا الخلاّقة».
-زنوبيا- «كتاب الأوراق السرية للملكة زنوبيا»
هي نموذج للمرأة الطموحة والمثقفة والقوية والمناضلة والقائدة، المرأة التي استطاعت أن تصنع لها تاريخاً ينافس آلهة الأساطير من النساء، حتى أنك تحسبها من الوهلة الأولى أسطورة فرّت من الأدب إلى الواقع.
امرأة أحاطتها القصص من كل جانب وكأنها خرافة تاريخية خرجت من كتاب ألف ليلة وليلة أقرب من كونها سيرة ذاتية.
ينقسم التاريخ حول هذه المرأة ليصنع منها نسختين، نسخة بالرواية العربية ونسخة بالرواية اليونانية، وهو انقسام زاد من فضاءات الغموض حول هذه الشخصية، وعتّق حيرة سؤال التعرّف والتعريف، فهل «الزّباء» وفق الرواية العربية هي «زنوبيا» وفق الرواية اليونانية؟
فالأولى بنت ملك قُتل على يدّ عدوه لتبدأ رحلة «الزّباء» في الثأر، رحلة انتهت بانتحارها بالسم، والثانية زوجة ملك خلفت زوجها على العرش لتبدأ رحلة طموحها السياسي، رحلة انتهت بانتحارها بالسم.
ومن يقرأ سيرة المرأتين سيجد أن من الصعوبة أن تكون الشخصيتان لامرأة واحدة رغم وجوه التشابه بينهما.
في كتاب «الأوراق السرية للملكة زنوبيا» للمؤلف «برنار سيميوت» ترجمة «هيثم سرية» الصادر عن دار دمشق عام 1991م، يقدم زنوبيا على أنها امرأة عربية ولدت في تدمر لأب تاجر، وكان هذا الأب يطمح أن يزوج ابنته فائقة الجمال لنبيل من نبلاء الرومان لذا اهتم بتعليمها وإعدادها لا كفتاة عادية بل كفتاة ستتزوج في المستقبل نبيل من النبلاء، ولذا خصص لها أفضل المعلمين لتدريسها حتى تثقفت بعلوم التاريخ والفلسفة وأجادت كتابة الشعر واتقنت اللغة اللاتينية والاغريقية بالإضافة إلى العربية كما اتقنت رمي القرص وركوب الخيل والجمال البيضاء.
لم يذكر برنار سيميوت في هذا الكتاب رواية الزّباء مع جذيمة الأبرش وعمرو بن عدي، وهو ما يعني أن الزّباء وزنوبيا شخصيتان مختلفتان ولعل الأصل العربي الذي جمع بينهما هو الذي أوقع الخلط بين الشخصيتين.
وفي غير هذا الكتاب فهناك اختلاف حول أصول زنوبيا هذه المرأة التدمرية التي تزوجت ملك تدمر بعد ذلك، فهناك روايات ترى أن أصول زنوبيا تعود إلى عماليق العرب وهناك من نسبها إلى الأصل البطملي نفس الأصل الذي كانت تُنسب إليها الملكة الفرعونية «كليوباترا» إذ إن هناك صلة قرابة مع كليوباترا عن طريق أم زنوبيا.
وهذه القرابة هي التي جعلت زنوبيا تسير على نهج كليوباترا في مضمار الطموح السياسي، كما أن هناك شبه بين قصة الملكتين فقد حكمت زنوبيا تدمر بعد وفاة زوجها الملك نيابة عن ابنها «وهب اللات» الذي كان صغيرا ولم يكن مؤهلا للحكم.
كما حكمت كليوباترا نيابة عن أخيها وابنها، كما أنهما لقيا نفس النهاية وماتا بنفس الطريقة وهي الانتحار بالسّم.
كما اختلف المؤرخون في طبيعة معتقدها الديني فهناك من ذهب إلى أنها تهودت واعتنقت الديانة اليهودية وتحظى زنوبيا بسيرة ذاتية طيبة في التلمود اليهودي لأنها منحت اليهود في تدمر حرية دينية كاملة رغم وثنية التدمريين كما كفلت لهم مواطنة عادلة على قدم المساواة مع التدمريين، ولعل موقفها هذا مع اليهود هو الذي دعم رواية اعتناقها لليهودية، وهناك من ذهب إلى أنها اعتنقت الديانة المسيحية.
وفي رواية مختلفة عن كتاب سيميوت فإن زنوبيا تلقت تعليمها في الإسكندرية وهناك درست تاريخ الإغريق والرومان ولعل من هذا المكان بدأت حكاية تأثر زنوبيا بكليوباترا فكريا مع تشابه كل منهما في الجمال الفائق والذكاء.
وقد كان لدراستها في الإسكندرية أثر كبير في حبها للفلسفة والتاريخ واهتمامها بهذين العلمين وأصحابهما وقد قربت إليها الفيلسوف الشهير «لونجينوس» وجعلته مستشارا لها، كما قربت إليها بعض المؤرخين أمثال: كليكراتس الصوري، وبوسانياس الدمشقي، ونيوكوماخس.
ولا شك أنها استفادت من هذا التنوع الحضاري ما بين تدمر والإسكندرية الذي منحها قوة الذكاء والحكمة والحيلة والطموح والشجاعة، والذي انعكس فيما بعد في طموحها السياسي الذي كانت تسعى من خلاله لتُصبح امبراطورة على روما.
وقد انعكس هذا الطموح على كل شيء في حياة زنوبيا من لبسها ومركباتها المرصعة بالذهب وقصورها وحتى الحضارة العمرانية التي شيّدتها في تدمر، ورمزيات الخلود الحضاري من إصدار عملة خاصة بتدمر وصكّ النقود التي تحمل صورة ابنها لضمان الاستقلال الاقتصادي لتدمر بعيدا عن الإمبراطورية الرومانية.
قادت زنوبيا الجيوش تحت راية الدولة الرومانية لكن نيتها الحقيقية كانت تشكيل امبراطورية خاصة بها عاصمتها روما فغزت مصر وجعلت ابنها ملكا عليها، ثم استولت على سوريا حتى وصلت إلى البسفور كما استولت على آسيا الصغرى وأخضعتها لحكمها الفعلي تحت راية الدولة الرومانية، التي كانت ستارا تستخدمه زنوبيا لتحقيق طموحها السياسي في أن تُصبح «امبراطورة».
وأطلقت على اسم «الإمبراطورية الشرقية مملكة تدمر» على الأراضي التابعة لسيطرتها العسكرية، لتُصبح مملكة تدمر من أقوى الممالك في الشرق في ذلك الوقت.
هُزمت زنوبيا على يد الإمبراطور الروماني «أورليان» ونُفيت إلى روما وخضعت للإقامة الجبرية في قصر من قصور روما حتى وصُف هذا النفي «بالنفي الذهبي» وذلك تقديرا لعظمة هذه المرأة.
صحيح أن زنوبيا لم تُحقق طموحها السياسي أن تُصبح امبراطورة لكنها رغم ذلك فهي المرأة التي هددت عرش الإمبراطورية الرومانية، المرأة التي جهزت لها الإمبراطورية الرومانية أقوى الجيوش لهزيمتها.
المرأة التي أسست مملكة قوية مازالت حتى اليوم معلماً حضارياً يُخلد اسمها.
تميزت زنوبيا مع شجاعتها وقوة قيادتها لجيشها الذي بلغ 70 ألفاً بحبها بالأناقة في اللبس فقد كانت وقت الحروب ترتدي «خوذة أبوللو» وأبوللو عند الإغريق هو إله الفنون و»إله الرماية» ولعل هذا كان المقصد عند زنوبيا من اعتمار خوذة عليها شعار الإله أبوللو لإرسال رسالة ضمنية على امتلاكها قوة الرماية التي تقودها إلى الفوز والنصر دائماً.
وعندما تستقبل الوفود في ديوانها الملكي كانت تلبس «العمامة الكسرواية»، ولعل لهذه رمزية أقصد الجمع بين «الخوذة المرسوم عليها شعار الإله أبوللو والعمامة الكسراوية» رمزية تكمن في التنوع الحضاري والثقافي لتدمر الذي جمعت بين الحضارتين الرومانية والساسانية -الفارسية-.
لم تستحمل زنوبيا الحياة بعد تدمير مملكتها تدمر العظيمة واختارت الموت على أن تعيش بين أنقاض وذكريات هذا الخراب الذي سيطر على مملكتها فتجرعت السّم للتخلص من إحساس الألم والهزيمة وهي تردد «غنِ لي يا تدمر، ها أنا أطير برفق على أجنحة صقور صحرائي التدمرية.. تعال.. تعال أيها النعاس الصغير وستغفو زنوبيا زينب ملكة الصحراء».
- كتاب «الأوراق السرية للملكة زنوبيا» للمؤلف «برنار سيميوت» ترجمة «هيثم سرية» الصادر عن دار دمشق عام 1991م.
النهايات المؤلمة لا تُلغي الإنجازات العظيمة.