تمتازُ القصص القصيرة لمحمد علي مدخلي بدقة تصوير الحالة الشعورية للشخصية، واعتمادها اللغة السردية المتسارعة، بتوسل تتابع الأحداث واللغة الفعلية المتنامية، حتى تغدو القصة كمشهد سينمائي صادق.
يُعد نص «مَسْغَبَة» من أهم القصص القصيرة التي تحاول إعادة مساءلة القيم المُستقرة لدى الأفراد في المجتمع وتقييم حدود العلاقات الإنسانية، بتعرية المفاهيم الشائعة حول عدد منها مثل: (العدالة، الأمانة، الرحمة، القناعة) بتصوير حدث عائلي، في ظرف اجتماعي مؤلم -المجاعة- كما دل على ذلك عنوان القصة...
النصُّ قائم على تدافع الشخصيات عبر تسلسل زمني صاعد، بالتركيز على الفعل وردة الفعل للشخصية، الجوع يرغم الطفل على البكاء، والطفل يدفع الأم ببكائه إلى اتخاذ قرار ظرفي متأزم، فتدفع بدورها الزوج على التصرف وارتكاب الخطيئة (السرقة) بطريقة غير مباشرة، فيخلق الزوج بدوره سببًا يجعل الحارس يقوم بأداء مهمته داخل القصة.
هذا البناء التسلسلي للحدث المتمثل في تدافع الشخصيات من النقطة صفر - تجعلها تتساقط كأحجار الدومينو- للوصول إلى غاية، وهي أن «الأخلاق» لا تقاس بالأفعال بل بنوايا الأفعال!
وبذلك يمكن القول إن القصة تسعى إلى إعادة النظر في مسألة فهمنا للقيم وفلسفة بنائها، ومناطها الحقيقي، بواسطة تسلسل بنائي يبدأ من الشخصية الأضعف إلى الأقوى (الطفل ثم المرأة ثم المواطن ثم المسؤول)، مما يجعل المتلقي متعاطفًا لا مع فعل السرقة في الحقيقة، بل مع الدافع الحقيقي للسرقة - جوع الطفل- والذي كان في محل تعاطف الشخصية الأقوى (الحارس) الذي لم يلتق بالطفل في القصة، بل التقى بحاجته (الغذاء) التي هي حاجة إنسانية مشتركة، فكأنما استشعر ضعفه الكامن في نفسه خلف بدلة الحراسة، فانتقل ضعف الطفل إليه، وترك الزوج يهرب بالطعام.
عدم تعاطف الحارس مع الزوج جاء منطقيًا، فإدمان الزوج سرقة مستودع الأغذية واستسلامه لواقع الحال، يعطي انطباعًا عن تخاذل الزوج في تلبية احتياجات أسرته، الذي عزز من ذلك أن الزوجة نفسها كانت تندب حظها وتشكو فقرها بصوت عالٍ بلغ مسامع الزوج، لذلك لم يتعاطف معه الحارس بتاتًا، إلا بعد أن انتقل الحارس بمشاعره السلبية تجاه الزوج، إلى مشاعر إيجابيه مع الطفل فأخلى سبيله.
انعدام العدالة الاجتماعية المتمثل في النص ظهر بوجود مستودع مغلق مليء بالأغذية، لا يستطيع الجميع الوصول إليه رغم وجوده، فهو يكفي حاجة المجتمع لو وزّع ما بداخله بالتساوي، ولكن هذا الأمر لم يتم! وسقوط الزوج والحارس عرّى ذلك.
وعندما نحفر أكثر في البنية الثقافية للقصة، نجد أن غياب «الجانب الديني» في بنية القصة واضح، رغم وجوده في نص العنوان (المسغبة) المتناص مع الآية القرآنية: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}.
فعدم تقديم الجانب الديني في النص على أنه المحرك للفعل أو الرادع عنه، يطرح مجموعة من التساؤلات، رغم وجوده في العنوان! مما يعطينا تصورًا شائكًا لعلاقة التدين بالأخلاق، ودور التدين لدى الأفراد في تعزيز حضور الأخلاق وسلطتها وعلاقة ذلك بنزعات الإنسان وشهواته، لذلك في تصوري أن القصة فتحت مجموعة من التساؤلات التي تتماس مع طبيعة المتلقي المتدين وغير المتدين في البنية الثقافية العميقة للقصة!
وفي جانب البناء الفني للقصة ظلت الحوارات جيدة ومتماسكة وتلبي شروط الحوار، كذلك جاء خط الوصف في غاية الدقة والوضوح، كوصف فتح الزوج لباب المستودع بدقة، ومشهد العراك الذي دار بين الزوج والحارس.
في حين جاءت قفلة القصة مفتوحة مما وسَّع من أفق التأويل، كذلك هي قفلة سعيدة مع أن تصرّف الحارس بتركه الزوج يسرق يُعدّ أمرًا خاطئًا، ولكنها كانت مرضية للمتلقي الذي أوضح له الراوي الخارجي طبيعة الظرف الذي يمر به بطل القصة.
والقصة تحتمل الكثير من التأويلات النقدية، حيث يبقى مدخلي كاتب قصة بارع ومُخلص لنصوصهِ، وأرجو أن نقرأ له في القريب العاجل نصوصًا جديدة.
** **
- سلطان العيسى