الجزيرة الثقافية - يحاورها - جابر محمد مدخلي:
يتمرن الإنسان على الغياب الإجباري علّه يحيا مطمئنًا، وآمنًا على نفسه وأهله، وتحديدًا حين يكون الغياب عن وطنه الذي يحبه، ويكتب إليه، ويسعى دائمًا ليؤثث به روحه، وقلبه، وليربّت بما يكتبه قليلًا على نفسه، وكثيرًا على الآخرين. والشاعرة والروائية العراقية دنيا ميخائيل استطاعت بروايتها الأولى «وشم الطائر» التي كتبتها بعد غيابٍ عشرين عامًا عن العراق في محاولة منها للتربيت على كتف وطنها، وأكتاف بناته المألومات، وشبابه المحزونين، وأرضه المُعلِنة على قلوب وأرواح العراقيين أينما رحلوا عنها اللهفة إليه، والعودة إليه ولو بعد حين. كتبت قصائدها «أحبك من هنا إلى بغداد» ولم تكتف، فأطلقت طائرها الموشوم بعشق العراق، وحزنها عليه ليغرّد مع السرب ويحمل سنابله الخضراء إلى أمل الغد. ترشحت بروايتها الأولى والوحيدة حتى الآن إلى القائمة القصيرة بجائزة البوكر للرواية العربية. واليوم تلتقيها الجزيرة الثقافية لتحاورها عن قرب أكثر، أكثر من أيّ غيابٍ مضى.. فإلى نص الحوار:
- دنيا ميخائيل شاعرة، إلا أنها كتبت روايتها الأولى «وشم الطائر» فدخلت بها القائمة القصيرة لأهم جائزة عربية عن الرواية، هل منحك الشعر كل هذا السرد؟
- نعم، هناك طاقة شعرية في هذه الرواية، من شأنها أن تنقل عدوى المشاعر المتدفّقة إلى القارئ. الحياة جافة من غير شِعر، والرواية كذلك، كونها حياة، لا نكهة فيها من دون شحنة الشِعر.
- تقيم دنيا ميخائيل حاليًا بالولايات المتحدة الأمريكية ولكن روحها، وشعرها، ولغتها التي تدرّسها هناك، وكتاباتها كلها عن العراق.. ما الذي ترينه في المستقبل لهذا البلد الذي أخذ منك كل هذا الحُب، وأكثر؟!
- أقتبس قولاً لبطلة روايتي هيلين: «بلدي جميل عندما لا تكون فيه حرب».
بالرغم من كل الخراب الذي شهدتهُ في بلدي لم أفقد الأمل بالعراق خاصة أن هناك شباباً من الجنسين يحلمون بوطن حقيقي يعيشون فيه بكرامة وحرية، ويتمكنون فيه من التعبير عن أنفسهم دونما خوف.
- لم نعتد أن تقدم لنا روائية عملها بهذه المكاشفة كما فعلت دنيا ميخائيل حيث إنَّ كلماتكِ لم تكد تتجاوز العشرين جملة في التمهيد السردي إلا وأشرتِ إلى عتبة العنوان دونما تأجيل حين قلتِ: «لم يكن خاتمًا، كان وشم طائر». تُراه ما الإيحاء الداخلي للمؤلفة من وراء ذلك؟
- هو إيحاء مقصود لجعل القارئ يتساءل ما سرّ وشْم الطائر؟ ويأتي جزء من الجواب في الفصل الرابع ثم بقية الجواب في الفصل التاسع. الرواية بشكل عام عَقد فني بين الكاتب والقارئ. ومن ضمن العقد أن يأخذ الكاتبُ القارئَ في رحلة ويضع في الطريق إشارات من شأنها أن تدلَّ القارئ إلى استنتاجات، بكلمة أخرى إذا خلقَ الكاتبُ سؤالاً في ذهن القارئ فينبغي أن يدلّه تدريجياً إلى جواب مباشر أو غير مباشر. ومن شروط العَقد أيضاً ألا يضيّع الكاتبُ وقتَ القارئ، بمعنى أن الرحلة يجب ألا تكون مملة.
- فتح لنا نص «وشم الطائر» مصراعيه على جانب سوداوي لينقل لنا بشاعة ما حدث على أرضه السردية وما يحدث باستمرار على أرضنا الواقعية.. هل تعدّين هذا النص وثيقة، ومرافعة أدبية عمّا فعله تنظيم داعش الإرهابي؟
- أو بالأحرى مرافعة إبداعية تتقصى آثار كارثة إنسانية على حيوات تتوقف في منتصف انشغالاتها بالحياة. ولأن الظلم الذي وقع على تلك الحيوات فادح ومرعب، كان لا بد لي من مكافحته بأقصى درجات الإبداع، بمعنى أن أبتكرَ قدراً هائلاً من الجمال لخلق توازن مع كل ذلك الألم.
- جمع النص بين دواعش من جميع الأصقاع: العربي، والشيشاني، والفرنسي، وغيرهم أكان القصد من هذا التجميع الإرهابي هو مواجهة العالم بقواه العُظمى بفعلية وحقيقة ما حدث حقًا، وأنّ الإرهاب لا مكان، ولا لغة، ولا دين له!؟
- نعم، الإرهاب لا مكان ولا لغة ولا دين له. الإرهاب أيديولوجيا خطيرة تؤمن بفكرة واحدة لا غير وتريد أن تمرّر تلك الفكرة على الأجيال فتنشأ الأخيرةُ على قصة واحدة على أنها الحقيقة خاصة وأن الشخوص أو الشهود الذين يمثلون الوجهة الأخرى للقصة، بعد مرور الزمن، يموتون وتغيب معهم ذاكرتهم الجمعية، وهنا تأتي أهمية الأدب في تسليط الضوء على تلك الحيوات المهمّشة وسرد الوقائع، بلا غرض سياسي، بأمانة وإبداع.
- بين البداية وفصل «وشم الطائر» قرابة 41 صفحة وفي هذه المساحة حدثت عودة دائرية بالسرد والحكاية.. ماذا لو تقدمتِ بالأحداث دون العودة بها للوراء حيث بدء العلاقة بين هيلين وإلياس؟
- كانت هناك احتمالات كثيرة قائمة في أثناء شغلي على الرواية ولديّ مسودات كثيرة ولكني سكنتُ أخيراً إلى شكل فني ذي انكسارات متوازية في الزمن من دون الإخلال بانسيابية الأحداث. طبعاً لا يوجد صح أو خطأ في الأدب ولكن النقلات محسوبة إذ لها تبعات، تماماً مثل لعبة الشطرنج حيث الاحتمالات كثيرة ولكن أفضلها هي تلك المدروسة جيداً.
- معظم حوارات الرواية جاءت على صيغة (القول) بعيدًا عن تقنية الحوار السردي الحديثة بوضع (الشرطة الحوارية) فهل كان أسلوب السارد يتحكم بذلك؟
- أنا لا أحب الأثاث المحتشد الذي لا يترك فراغات مريحة للعين. وكذلك لا أميل كثيراً إلى تكرار الشارحة الحوارية في النصوص، أجدها أثاثاً زائداً.
- يمكنني القول عن «وشم الطائر» إنها رواية الواقع المأساوي الذي خلقته فئة مارقة، فئة سوداوية في تاريخنا، فئة الدين والإنسانية بريئان منها، كيف تمكنتِ من حبكة حيوات أبطالك المتناثرة أرواحهم كالأشلاء؟
- قبل كتابة الرواية، التقيتُ نساء كنَّ قد هربن تواً من داعش من أجل الاستماع إلى أصواتهن، عدتُ من أمريكا إلى قرى العراق الشمالية بعد أكثر من عشرين سنة غيابًا عن البلد. كانت تجربة صعبة عليّ نفسياً وعملياً خاصة أن الجماعات المتطرفة كانت ما تزال موجودة في المنطقة هناك، ولكني فقدتُ صوابي بعد أن شهدتُ إهدار كرامة المرأة وبيعها في السوق كأي سلعة. زرتُ مخيمات ومقابر جماعية و»معبد لالش» وكانت الشمس تضيء أمامنا الموتَ والدموع والخراب. ولكن بالرغم من تأثري الكبير حاولتُ طرحَ المَشاهد دونما انفعال بقدر المستطاع وذلك لغرض ترك مساحة كافية ليختبرَ القارئُ مشاعرَه وتفاعلَه مع الأحداث بشكل حقيقي.
- بين أبطالك وأحداثهم جاءت مجمل المصائب والآلام والأحاديث مفاجئة وصادمة ومؤذية وكثيرًا دونما مقدمات.. هل يمكنني القول بأنّ إرهاب داعش النفسي والجسدي لم يترك لأبطالك إلا الفضفضة والبوح لتخفيف حمولة صدورهم!؟
- ما يميز البوح لدى أبطالي (في أثناء أسْرهم) هو أن معظمه جرى بداخلهم بل إن الصمت كان اللغة الأكثر تعبيراً في بعض المواقف. غزال (إحدى الشخصيات التي شهدت المجزرة) فقدتْ صوتها تماماً وأصبح فمُها مثل سجن انفرادي يحدث فيه الكثير من الكلام من دون صوت. استرجعت صوتَها حين تحرّرت فوجدت نفسَها تشارك النساء المحتفيات بحريتها غناءهن الأليف لديها. وهذا حدثَ في الواقع لامرأة إيزيدية شهدت مقتل زوجها وإخوانها وأقاربها على يد تنظيم داعش. إعلاء الأصوات الحبيسة كان حافزي الكبير لكتابة هذه الرواية.
- أنهيتِ النص بنهاية قد لا ترقى لنسميها بالسعيدة؛ لما سبقها من الأسى، ولكنها تغيير لخارطة الألم الذي اجتهدت بطلتك «هيلين» للتخلص منه، كان يمكن إنهاء النص بمأساة أيضًا.. فأيهما اختار هذه النهاية غير المتوقعة: دنيا أم أبطالها؟
- وجدتُ بطلتي هيلين تحاكي رقصة الطائر الجريح التي يسمّونها في قريتها «رقصة الألم» وهو - برأيي - مشهد مجازي معبّر عن ثنائية الألم والجمال، وهو ما تقترحهُ رواية «وشم الطائر».