مما يزيد الشيخ كرهاً للشيخوخة انصراف الغواني عنه إلى من هو أصغر منه سناً وأكثر حيويةً ونشاطاً. فالأعشى يتحسّر على أيام مضت حين كان يواصل النساء، وقد فقد ذلك كله مع الكبر:
وأَرى الغوانِيَ حينَ شِبتُ هجرنني
أَن لا أَكونَ لهنَّ مثلِيَ أَمرَدا
إِنَّ الغوانِيَ لا يُواصِلنَ امرءاً
فَقَدَ الشبابَ وقد يَصِلنَ الأَمرَدا
وأبو تمام يقول في تفضيل النساء الأمردَ على الشيخ الوقور:
أحلى الرجال من النساء مواقعاً
من كان أشبههم بهن خدودا
ويذكر النابغة الجعدي ما جرى له مع صاحبته أميمة، فقد أوقعته في معادلة صعبة الحل، فهي لا ترضى إلا بشاب، وهو لا يستطيع أن يستعيد شبابه:
تذكّرتُ ذِكرى من أُميمةَ بعدما
لَقِيتُ عَناءً من أُميمةَ عانِيا
فَلا هيَ ترضى دونَ أَمرد ناشئٍ
ولا أَستطيع أَن أَرُدَّ شبابيا
وهذه المعادلة الصعبة عانى منها جرير مع صويحباته فقال:
أعرضن من شَمَط في الرأس مشتعل
فهُنّ عني إذا أبصرنني حِيدُ
قد كنّ يعهدْن مني مَضْحَكاً حسنا
ومَفرِقاً حسَرت عنه العناقيدُ
فهنّ ينشُدن مني بعضَ معرفة
وهن بالوُدِّ لا بخلٌ ولا جودُ
فقلن لا أنتَ بعلٌ يستقاد له
ولا الشباب الذي قد فات مردودُ
ويقرِّر محمود الوراق أن انصراف الغواني لا يكون مفاجئا؛ بل متدرجا، فكلما زاد البياض في الرأس زاد النفور. يقول:
حتى إذا نزل المشيب وصرت بين عمامتين
سوداء حالكة وبيضاء المناشر كاللجين
مزج الصدود وصالهن
فكن أمرا بين بين
وصبرن ما صبر السوا
د على مصانعة ودَين
حتى إذا شمل المشيب فحاز قطر الحاجبين
قَفَّيْنَ شّـَّر قفية
وأخذن منك الأطيبين
يحتاج الكبير إلى جهد مضاعف كي تستجيب له الغانية التي تبحث عمن تلهو معه، وقد يضطر إلى الاستعانة بوسيط أو شفيع، في حين لا يحتاج لذلك الشاب الفتيَّ، فيكفيه شبابه شفيعا. يقول محمد بن علي بن محمود الشامي العاملي إن الشباب كان شفيعه إلى الغواني، ويتساءل: من شفيعه الآن إلى الشباب؟
يالهف نفسي على شباب
أفنيت في عصره جميعي
كان شفيعي إلى الغواني
فمن شفيعي إلى شفيعي
والشباب عند أبي نواس ليس مجرد شفيع لدى الغانيات فحسب؛ بل هو الجمال، وهو الفصاحة، وهو المعين على المجازفات:
كان الشباب مطيةَ الجهل
ومُحَسِّنَ الضحكات والهزل
كان الجمالَ إذا ارتديت به
ومشيت أخطِر صـيِّتَ النعل
كان الفصيحَ إذا نطقـتُ به
وأصاختِ الآذانُ للمملي
كان المشفَّعَ في مآربه
عند الفـتاة ومدركَ التَّبْل
وقد لا يكفي الشباب وحده لجذب الفتيات؛ فلا بد أن يصحبه مال، وقد عبر امرؤ القيس عن أنَّ النساء لا يحببن قليل المال، أو الأشيب، فقال:
أراهنَّ لا يُحببن من قلَّ مالُه
ولا من رأيْنَ الشيب فيه وقوَّسا
ويزيد الطين بلة إن اجتمع مع المشيب قلة مال، كما هو رأي علقمة بن عبدة، في أن اقتران العوز المادي بالتقهقر الجسدي عند الرجل يحرمه بالقطع من كسب وُدِّ النساء واستمالتهن. وقد ذهبت أبياته في هذا الصدد مذهب الأمثال والحكم السائرة:
فإن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله
فليس له من ودهـن نصيب
يردن ثراء المال حيث علمنه
وشرخ الشباب عندهن عجيب
وقد صرحت إحدى بنات ذي الإصبع العدواني بأمنيتها أن يكون حليلها شاباً غنياً:
ألا ليت زوجي من أناس ذوي غنى
حديث الشباب طيب الريح والعطر
وهذه الشاعرة دنانير (ت205 هـ) جارية الشاعر ابن كناسة - وهي غير المغنية المعروفة - تعرَّض لها أبو الشعثاء بعد أن سمع غناءها، وعبَّر لها عن هيامه بها، فأجابته بسخرية مريرة، إذ نصحته بأن يحرص على تأدية الفرائض لعل الله أن يدخله الجنة فتلتقيه هناك وقد رده الله شاباً، فتستجيب له، فقالت:
صلِّ إن أحببت أن تعطى المنى
يا أبا الشعثاء لله، وصُم
ثم ميعادك يوم الحشر في
جنة الخلد إنِ اللهُ رحم
حيث ألقاك غلاماً يافعاً
ناشئاً قد كملت فيه النعم
وقد أدرك حقيقة أن الشيخ غير مرحب به بين الغواني الشاعر الأندلسي يحيى بن حكم الغزال فصرح بذلك لمن أرادت خداعه بقولها (أحبك) بعد أن أصبح شيخا كبيرا، ورد عليها بقوله:
قالت أحبك قلت كاذبةٌ
غرَّي بذا من ليس يَنتَقِدُ
هذا كلام لست أقبله
الشيخ ليس يحبه أحد
ولأبي دلف العجلي - أو لمحمد بن حازم الباهلي - أبيات طريفة يجعل الشيب فيها هو الذي ينهى الفتاة التي يغويها شيخ بألا تلتفت له، فيقول:
نظرت إلي بعين من لم يعدل
لما تمكَّن حبها من مقتلي
لما رأت وضح المشيب بلمتي
صدت صدود مفارق متحمل
فجعلت أطلب وصلها بتلطف
والشيب يغمزها بألا تفعلي
ولا يرى ابن المعتز عجباً في انصراف الغواني عمَّن مسه الشيب، فإن الشائب يكره نفسه فكيف لا تكرهه الغواني:
لقد أبغضت نفسي في مشيبي
فكيف تحبني الخود الكعاب
ويوافقه الرأي ابن الرومي، فيطلب من الذين يلومون النساء حين لا يقبلن عليهم بسبب الكبر أن ينظروا إلى وجوههم في المرآة فإذا كرهوا صورهم فلا يلوموهن:
إذا ما رأتك البيض صدت وربما
غدوت وطرف البيض نحوك أصور
وما ظلمتك الغانيات بصدها
وإن كان من أحكامها ما يُجَوَّرُ
أعر طرفك المرآة وانظر فإن نبا
بعينك منه الشيب فالبِيض أعذر
إذا شنأت عين الفتى وجه نفسه
فعين سواه بالشناءة أجدر
وبعكس ما تقدّم تستزير إحدى الغواني ابن المعتز، وقد تَجَنَّب الصبوات حياءً من الشيب، وتستنكر عليه فعله، فيقول على لسانها:
أراكَ جعلت الشيب للهجر علة
كأن هلال الشهر ليس من الشهر
** **
- سعد عبدالله الغريبي